كيف تكون محبوباً! (3)

روت لي إحدى الأخوات موقفاً، مرّت به، يصلح أن يكون مدخلًا، نتعرّف من خلاله على صفة جديدة من صفات عباد الله المحبوبين.

تقول: كنتُ يومًا في اجتماع عمل، حضره مندبوبون عن عدّة شركات، وبعد انتهاء الاجتماع، طلبت مني إحدى الحاضرات أن أزورها في مكتبها، وأقدم لها سيرتي الذاتية، ضامنةً لي أن منصبًا مرموقًا بانتظاري في شركتها التي تديرها، خاصة بعد أن تعرّفت على مهاراتي المتعلقة بالوظيفة التي تحتاجها في العمل، من خلال مشاركتي في الاجتماع اليوم.

حدّدت لي موعدًا، وأكدت لي أنّها ستكون فرصة لا تعوّض في مسيرتي المهنية.

أكمّلت الشابة قائلة: لا أُنكر أن شيئًا ما كان يقلقني تجاه ذلك العرض، لكنني في نفس الوقت كنت مسرورة جدًا بفرصة جاءت بعد طول انتظار. مرّت أيام، وأنا أعاني من صراع بين "قلب غير مطمئن" و"نفس تواقة طموحة"، تتمنى أن تخطو خطوات نحو تحقيق أحلامها.

وجاء اليوم الموعود، وبعد ليلة قضيتُها بين صلاة ودعاء، وجدتُ نفسي أردِّد صبيحة ذلك النهار، وقبل وقت بسيط من موعد الاجتماع، وأقول: "يا رب، إن كنت تحبني، فامنعني بلطفك، أو أعطني بفضلك".

تقول الفتاة: رحتُ أتمتم بتلك الكلمات، وأنا انتظر لُطفه أو فضله، وإذا بأوجاع تُصبّ عليّ من حيث لا أدري، وإذا بحرارة تصيب جسدي، وتشلُّ أوصالي، وتمنعني من الخروج.

أرسلتُ رسالة اعتذار للسكرتيرة، وعدتُ إلى فراشي، وأنا أرتجف من شدة الحمى، ومكثت ثلاثة أيام لا أستطيع بسببها أن أرفع رأسي. ثلاثة أيام أشكو فيها من حرارة جسدي المتعب، لكن "برودة يقين"كانت تسري في شراييني، لعلمي بأن الله يحبني، وقد استجاب دعائي، وأنه منعني بلطفه، وحماني، ووقاني، وأغلق دوني بابًا لم أكن مستعدة له بعد..

إنهم "المحبوبون الممنوعون"، أولئك الذين لا يقلّل المنعُ من محبتهم، ولا تتعارض المحبة مع إبعادهم عمّا يضرهم..

رغم المنع هم محبوبون.. لأنه منعُ حفظ وصيانة وحماية، لا منع حجب أو بخلٍ أو حرمان.. محبوبون لا يتركهم الله لأحد سواه..

محبوبون تمرُّ بهم المواقف والحوادث واللطف يحيط بها، والمخرجُ منها فيها.. محبوبون محفوظون من الدنيا وإن رغبوا، محميّون منها، وإن طلبوا..

تلك هي المحبة الإلهية المقرونة بالحِمية الربانية، المذكورة في حديث خير البرية، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أحب الله عبدًا حماه الدنيا كما يظلّ أحدكم يحمي سقيمه الماء". وفي رواية: (إن الله ليحمي عبده المؤمن الدنيا، وهو يحبُّه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب، تخافون عليه).

فإذا أحب الله عبدًا حماه الدنيا التي قال عنها ربّنا جلّ وعلا: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾ [آل عمران]، تلك التي قد ترى لها ظاهرًا تحبُّه وترغب به، لكن باطنها مكروه المآل، سيّء العاقبة، والله يعلم ونحن لا نعلم..

وإذا أحب الله عبدًا سدّده، وحفظه من الانحراف والخطأ، وأغلق دونه أبوابًا كان يظنّها لصالحه، والله يعلم أن فيها فساده وهلاكه. وقد ورد في الأثر بأن الله تعالى يحمي عبده المؤمن كما يحمي الراعي الشفيق غنمه عن مواقع الهلكة..

لا أحد منا يشكّ في أن الماء يروي، ويُنبت، لكنه إذا جاء في غير موعده، أو فاض عن حدّه، فهو نذير هلاك وخسارة. وكذلك هي الدنيا، إذا أرادها المؤمن، ولم يكن آخذًا حِذْرَه منها، مستعدًا لها، متحصنًا بمعرفته بحقيقتها، ثابتًا أمام زخرفتها وزينتها، فإن الله تعالى يحميه من الوقوع في حبائلها، ويصرفه عن أبوابها.

سبحان ربّنا، يمنع محبوبه محبة وكرامة؛ يمنعه حبيباً، أو صحة، أو مالاً، أو منصباً، وعلى المحبوب الممنوع أن يعرف بأن المانع هو الله: "اللطيف الخبير، الحكيم الرحيم"..

يقول ابن الجوزي رحمه الله: (تفكّرت في قولِ شيبان الراعي لسفيان الثوري رحمه الله: يا سفيان، عُدَّ منع الله إياك عطاءً منه لك، فإنه لم يمنعك بخلًا، إنما منعك لطفًا). ورحم الله من قال: (من يطلب الفائق، يطلب سكينًا لذبحه وما يعلم).

إخوتي أخواتي، ورد عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقتربت الساعة، ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصًا، ولا يزدادون من الله إلا بُعدًا"، ففي هذا الزمان الصعب، نرفع أكفّنا راجين ربنا أن نكون من المحبوبين، وإن أوصدت في وجوهنا الأبواب، داعين مخبتين: اللهم إذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم، فأقرر عيوننا بمحبتك وقربك، واختر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرك، حتى لا نحبّ تعجيل ما أخّرت، ولا تأخير ما عجّلت، واجعل غنانا في نفوسنا، واجعل حبّك رفيقنا وأنيسنا، واجزنا عنه حباً نسعد به يوم نلقاك، يا رب العالمين..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين