يأكل معظمنا حتى تنتفخ من الطعام بطونهم، وينام أكثرنا حتى تملّ الفرشُ جبنوبَهم!..
يصرفُ أغلبنا جُلّ أوقاتهم في اللهو واللعب والمسامرة، وينسون بأن الدنيا مغامرة، تحتاج إلى مبادرة، وعمّا قليل يُفتح باب المغادرة!
فإلى متى لا الإنجاز يعنينا، ولا الطموحُ يستهوينا، ولا الأمرُ الجلل يحركُ ساكنًا فينا؟!
ألم تعملوا بعد:
أنّ من رامَ العُلا من غير كدِّ=أضاعَ العمرَ في طلبِ المُحالِ
نرومُ العزَّ ثمّ ننامُ ليلًا=يغوصُ البحرَ من طلب اللآلي
ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: "لا تَصْغُرَنَّ همَّتِكُم، فإنّي لم أرَ أَقْعَدَ عن المكرماتِ من صِغرِ الهمم".. أويفسّر هذا القول وجودَ أرتالِ القاعدين بيننا؟ وكيف وصلنا إلى هنا؟! جيل يبحث عن أفعلِ التخفيف من كل شيء! جيلٌ يريد الأخف، والأسهل، والأسرع، والأقرب، والأرخص! لا يرغب أحدهم بأفعل التفضيل إلا بما يوافق هواه: فالأغلى لثيابه وسيارته، والأحسن لفرشِ بيته، والأسرع لهاتفه وشبكته وتقنياته، والأوضح لكاميرته وصورته، والأقل لساعات دوامه وعمله!
لِمَ هبط سقف طموحاتهم حتى تهاوى علينا وعليهم، وأذاقنا الضعف والخور، والبؤس والكدر؟!
ولكن، إذا عُرِف العرض، وضح العلاج، وزال المرض؛ هكذا يقولون..
فما نحن فيه: حبٌّ للركون ،وميل للخمول والسكون..
ما نحن فيه: جبنٌ عن الإقدام، وإراحة للرأس والأقدام..
ما نحن فيه: غرقٌ في الشهوات، ولهث وراء الملذات. .
ما نحن فيه: طموحٌ رخيص، وحلم خسيس..
ما نحن فيه: بلادة في الرخاء، وهلعٌ في البلاء..
وليس أمامنا إلا طريق واحد: تقوى تكبحُ جماح النزوات، وقوة ترفع سقف الطموحات، على أننا لن نبلغ ما نحبُّ، حتى نكون لله الأقرب والأحبُّ..
إنّ المكارم محفوفة بالمكاره، وإن الإنجازات مرهونة بالطموحات، وإن الغنائم متعلقة بالعزائم، وإن المصالح جائزة كل كادح..
ولقد بصرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها=تُنالُ إلا على جسر من التعب
محبوبنا اليوم عملة نادرة، شخصية باهرة، وعزيمة نستعين بها قاهرة..
محبوبنا أينما وُجد فهو مغنم، وإلى الأحلام الكبيرة سُلّم..
محبوبنا مِصْعَدُ القمة، قاطف النجوم،عالي الهمة..
وحتى نتعرّف عليه عن قُرب، أعيروني من وقتكم دقائق معدودة، لنحكي قصة في نواصيها الخيرات معقودة..
يُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع مرة من بعض أسفاره، فنزل على أعرابي في الصحراء، فأكرم هذا الأعرابيُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا جئت المدينة فأتِنا". ولم تمضِ أيام حتى أقبلَ ذلك الأعرابي إلى المدينة، فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أراد أن ينصرف، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: "سلني"، يعني اطلب مني شيئًا. ولكم أن تتخيلوا قيمة هذا العرض المغري، وإلى أي مستوى يجب أن يرتقي الطلب. فإذا بذلك الرجل يقول: أسألك دابةً أركبها"، فوهب له النبي دابة، ثمّ أعاد النبي صلى الله عليه وسلم العرض مرّة ثانية، فقال للرجل: "سلني"، فقال الرجل: "أسألك كلبًا يحرس غنمي"، فأُمِرَ له بكلبٍ يحرس غنمه. أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه فرصة ثالثة، فقال له: "سلني"، فقال الرجل: "وأسألك جارية تخدم أهلي". فوهب له جارية. ثم سكت الرجل راضيًا بتحقيق مطالبه، لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسكت، فقال للرجلِ لائمًا إياه على قصور همته، وعدم علّو مطالبه، فقال له: "أعجِزْتَ أن تكون كعجوز بني إسرائيل؟"، فقال الصحابة رضي الله عنهم: "يا رسول الله، وما عجوز بني إسرائيل؟"، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إنّ موسى عليه السلام لما أراد أن يرتحل بقومه، قال له قومه: إن يوسف عليه السلام (وهو النبي الذي كان قبل موسى) أمرنا ألاّ نجاوز المكان، وألاّ نرتحل حتى نحملَه معنا. فقال لهم: فأين قبر يوسف؟ قالوا: لا يعرفه مِنّا أحد إلا عجوزٌ مِنّا. فجيئ إليه بتلك العجوز، فإذا بامرأة قد كبر سِنُّها، ورقَّ عظمها، حتى كأنها تترقب الموت، وتودع الحياة. فسألها موسى: أين قبرُ يوسف؟ قالت العجوز: والله لا أدلُّك حتى تعطيني سؤلي! فقال لها: وما سؤلك؟ قالت: أن أرافقك في الجنة! فكأنّ موسى عليه السلام تردّد في أن يدعوَ الله بمرافقتها الأنبياء في أعالي الجنات، فأوحى الله تعالى إليه، أن قُلْ لها: أنت رفيقتنا في الجنة".. نقطة انتهت القصة، لكن العبرة تبدأ من هنا..
لقد كان ذلك منهج رسولنا عليه الصلاة والسلام في الحثّ على علوّ الهمة، وارتفاع سقف الطلب، لقوله عليه الصلاة والسلام: "إنّ الله تعالى يحبُّ معالي الأمور وأشرافها، ويكره سَفسافها"، أي أدناها وأقلّها.
فما هو سقف أبنائنا وبناتنا في المسائل والمطالب؟ سلوهم ماذا يريدون؟ سلوهم بمَ يحلمون؟ وإن جاءتهم الفرص ماذا سيفعلون؟ الهمة العالية شرف ومقصد، تعلو بالأمم إلى أعالي القمم، وتوصل إلى معالي الأمور ومحاسن الشيم..
أيها الثوار الأحرار، إذا طلبتم فأغلوا الطلب، واركضوا وراءه، كشرارة أوقدت في حطب..
لقد علمنا نبيّنا أن ترتفع أبصارنا للأعلى، وتتعب أجسادنا في سبيل الأغلى، تعلّمنا منه علّو الهمة والطموح ، لأن العرض مرتفع جدًا، والطمع فيه مسموح، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن في الجنة مئة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيله، كلّ درجتين ما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّرُ أنهار الجنة"..
المحبوب في السماء والأرض هو الذي يجاهد ويتعب في سبيل ما يحب.. ونحن في ثورة حرية وكرامة وعدالة، فهل أنتم محبوبون، وللتضحية مستعدون، وللنصر مستحقّون؟!
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول