كيف انتصر المسلمون على الإمبراطورية الرومانية؟!

كيف انتصر المسلمون على الإمبراطورية الرومانية؟!

 

د. سليمان صالح

انتشرت الكثير من الأساطير التي تصور القوة الجسدية للإمبراطور هرقل الذي احتل مكانة متميزة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية.

وكان ‏الصراع بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية قد بلغ ذروته في بداية القرن السابع للميلاد، ‏واستطاع الفرس أن يحققوا الانتصارات المتوالية منذ عام 614م، حيث تمكن كسرى الثاني برويز من الاستيلاء على الشام، ‏وخطط لاحتلال مصر ‏التي كانت توفر القمح للإمبراطورية الرومانية، وهدد كسرى الإمبراطور الروماني بأنه لن يتركه حتى يجبره على أن يترك عبادة المصلوب الذي يقول عنه إله (يقصد المسيح) ويخر ساجداً للشمس، وهذا يعني أن كسرى كان يريد القضاء على المسيحية.

أدى الصراع بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية إلى ارتكاب الكثير من المذابح خاصة في بيت المقدس التي تعرضت للحرائق، وقام الجنود الفرس بسحب ممتلكات المسيحيين وتدمير كنائسهم خاصة كنيسة القيامة، وقاموا بسفك دماء الكثير من المسيحيين.

وجد هرقل الذي كان قد تولى الإمبراطورية عام 610م نفسه أمام خيار وحيد؛ وهو أنه يجب أن يخوض المعركة بعد أن يقوم بتعبئة قواته، ويستعين بكل المسيحيين في العالم لمواجهة الخطر الفارسي.

وكان هرقل قد بدأ بطلب الصلح مع كسرى الذي رفض كل المحاولات لإقناعه بالتوقف عن غزو الأراضي التي تحتلها الإمبراطورية الرومانية، فلقد شعر أنه قادر على تحقيق هذا الهدف بعد الانتصارات السريعة التي حققها.

بدأ هرقل باستخدام الدين لتعبئة المسيحيين، وإقناع الكنائس بالتخلي عن ثرواتها وكنوزها لتمويل الحرب.

وبالرغم من معارضة الكنائس في البداية، فإن قوة الخطاب الديني لهرقل دفع الجميع إلى الاستجابة والتوحد تحت قيادة هرقل الذي قرر أن يقود الجيش بنفسه.

وتمكن هرقل من بناء قوة الإمبراطورية الرومانية، وإدارة كل مواردها، ‏وكان للدين دوره الحاسم في تحقيق ذلك، ‏كما أثبت أنه كان مخططاً إستراتيجياً وعقلية عسكرية متميزة، ‏وأنه يمتلك الكثير من ‏مؤهلات القيادة التي مكنته ‏من تدريب جيشه على فنون جديدة ‏للقتال مثل الرمي بالنيران وخداع العدو.

غرور القوة سبب الهزيمة

وفي عام 622م، غادر هرقل وجيشه عاصمته القسطنطينية، لكن كسرى عرف بتحركه فأرسل له رسالة وصف فيها هرقل بأنه خادمه الأحمق الحقير.

كان ذلك يعني أن غرور القوة قد أعمى بصيرة كسرى وبدأ يستهين بقوة عدوه؛ لذلك لجأ هرقل إلى استخدام إستراتيجية بث الرعب، حيث قام في طريقه ‏بتدمير المدن وإبادة أهلها بعد أن أقنع جيشه بأنهم ينتقمون لما حدث في كنيسة القيامة.

وهذه الإستراتيجية ‏تم استخدامها بقسوة من جانب الإمبراطوريتين، فلقد كان سلوك هرقل وجيشه ‏لا ‏يقل بشاعة وارتكاباً للجرائم من كسرى وجنوده.

‏دراسة تلك الجولة من الصراع بين الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية ‏توضح أن الحروب كانت تعتمد على استخدام القوة الغاشمة وعدم التقيد بأي مبادئ أخلاقية أو إنسانية أو حضارية، ‏وأنها كانت تقوم على الإبادة ‏والتدمير والتخريب والانتقام والقسوة والوحشية وقتل الأسرى.

ولكن بالرغم من استخدام هرقل لقوته الغاشمة ولإستراتيجية الرعب، فإنه ظل سنوات ‏طويلة لم يتمكن من تحقيق النصر الذي يحلم به ويخطط له.

وفي عام 627م، شن هرقل ‏هجوماً على الجيش الفارسي وتمكن من هزيمة الإمبراطورية الفارسية، واضطر كسرى للتراجع إلى المدائن، ثم قبل ابن كسرى -الذي خلفه على العرش- أن يعرض الصلح على هرقل.

‏كان هذا النصر هو الذي جعل هرقل يحتل مكانة مهمة في التاريخ الروماني، وتنسب إليه سمات البطولة والقوة.

مرحلة جديدة بالتاريخ

‏كان ذلك النصر الذي حققه الرومان ‏بقيادة هرقل لم يكن يتخيله أحد في ذلك الوقت، فالإمبراطورية ‏الفارسية كانت قد احتلت الشام وجزءاً كبيراً من الأراضي التي تسيطر عليها الإمبراطورية الرومانية؛ لذلك، كانت إشارة القرآن إلى هذا النصر في بداية سورة «الروم» معجزة تؤكد أن القرآن كلام الله الذي يقول: ﴿ الم {1} غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {5}‏ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {6} يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ (الروم).

‏وبعد النصر ذهب هرقل إلى القدس حيث أقام ‏احتفالاً ضخماً رفع فيه الصليب المقدس الضخم الذي كان قد استولى عليه من الفرس.

‏لكن كان على هرقل أن يواجه تحدياً ‏من نوع جديد، ففي العام نفسه الذي خرج فيه هرقل لمواجهة الفرس، خرج ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً من مكة إلى المدينة، وفي ‏اليوم نفسه الذي حقق فيه ‏انتصاره الحاسم على الفرس، ‏دارت في جزيرة العرب ‏معركة أخرى غيَّرت مسار التاريخ؛ هي معركة «بدر» ‏التي انتصر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشركي مكة.

‏ومعركة «بدر» تشكل ‏حداً فاصلاً بين مرحلتين من التاريخ، ‏وفي المرحلة الجديدة كانت حضارة جديدة يتم بناؤها بأيدي المؤمنين الذين تمكنوا من تحرير البشرية من ظلم الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية.

‏وإذا كان أحد لم يكن يتخيل أن الروم سوف ينتصرون على الفرس في بضع سنين بعد ‏هزيمتهم، ‏فلم يكن أحد يتخيل أيضاً أن ينطلق المسلمون من صحراء العرب للقضاء على الإمبراطوريتين في بضع سنين.

‏لقد استمر الصراع بين الفرس والروم لأكثر من 700 عام ‏تم خلالها إبادة الكثير من البشر وتدمير المدن وتخريب العمران، ‏ولم يفكر أحد في الإمبراطوريتين الالتزام بأخلاقيات الحرب، ‏أو المحافظة على الحياة الإنسانية والحضارية.

‏لكن الفرس والروم واجهوا جيشاً قليل العدد والعدة ‏لا يعتمد في المواجهة على القوة الغاشمة، ‏ولكن مصدر قوته هو الإيمان والرسالة والوظيفة الحضارية والأهداف العليا ‏والمحافظة على أخلاقيات الحرب، ‏واحترام كرامة الإنسان، ‏والحرص على دعوة الناس ونقل المعرفة لهم.

‏وتحليل سلوك هرقل خاصة بعد معركة «اليرموك» ‏توضح أنه كان يدرك أن الإسلام هو الدين الحق، ‏وأنه لا يستطيع الصمود في مواجهة المسلمين، فلقد ودع الشام بكلمات يمكن أن يفهم منها أنه يدرك أنه لن يعود لها بالرغم من أنه كان يمتلك القوة ‏التي تتمثل في عدد الجنود والأسلحة، ‏وكان يعلم أن الرومان قد أحاطوه بالكثير من الأساطير التي تمجد قوته وبطولته.

‏فهل كان يدرك أنه بالرغم من كل تلك القوة لا يستطيع الصمود أمام إيمان المسلمين؟!

لماذا سلم بالهزيمة؟!

‏هناك الكثير من الأسرار التي تحتاج إلى بحث متعمق لفهمها، فهرقل ‏كان قد ‏خرج قبل سنوات ‏قليلة منتصراً على الفرس، ‏وهو لا يهتم بأخلاقيات الحرب، ‏ومسيرته تقوم على استخدام القوة الغاشمة في الإبادة والتدمير والتخريب، فكيف يمكن أن نفسر تسليمه بالهزيمة أمام جيوش المسلمين في الشام بهذه السرعة، ‏والانسحاب إلى القسطنطينية وتركه ‏لباقي جيشه في مدن فلسطين، وتخليه ‏عن قيادة ذلك الجيش ‏مع أن ‏المؤرخين يعتبرون أن توليه قيادة الجيش بنفسه في مواجهة الفرس من أهم أسباب النصر؟!

وهرقل ‏يعلم أن شعراء روما كانوا يتغنون ببطولاته ويفتخرون بأمجاده، ‏وكان الذين صاغوا هذه الأشعار هم قساوسة الكنيسة، ‏لكن الذين كتبوا كل هذه الأشعار في بطولاته توقفوا تماماً عن ذكره، ‏ولم يكتبوا عنه شيئاً عقب هزيمته أمام المسلمين ‏وانسحابه من الشام، ‏بل إنهم كتبوا يوجهون له اللوم على زواجه من ابنة أخيه، ‏وهو ما يشكل خروجاً على الدين المسيحي، ‏بالرغم من أن قصة زواجه قد سبقت انتصاره على الفرس، ‏ولم يذكرها القساوسة أو يوجهوا له اللوم عليها إلا بعد هزيمته أمام المسلمين.

‏هناك أسرار غامضة وأسئلة تحتاج إلى إجابة، من أهمها: هل كان لدى هرقل ‏علم من الإنجيل أو التوراة ‏بأن محمداً هو رسول الله وخاتم المرسلين، ‏وأن الجيش الروماني سوف ينهزم أمام المسلمين؟! لكن، لماذا أصر على مواجهة المسلمين بجيشه ودخول الحرب ضدهم إذا كان يعلم ذلك؟! هل كان هرقل يخاف من الكنيسة وكهنتها على نفسه وملكه، ولم يعلن ما يعرفه وفضَّل أن يحارب المسلمين، ‏ثم بعد أن اتضحت له الحقيقة، ‏وأنه صار يتعرض للهزيمة ترك ‏قيادة الجيش لأرطبون ‏وعاد إلى القسطنطينية وحاول أن يتجنب بقية حياته الصدام مع الجيوش الإسلامية التي انطلقت بعد ذلك إلى تحرير مصر وبلاد المغرب العربي من الاحتلال الروماني، ‏ثم انطلقت نحو آسيا، ‏وحاولت فتح القسطنطينية بعد ذلك؟

‏إننا أيضاً نستطيع أن ننفي فكرة انهيار الروح المعنوية للجيوش الرومانية في مواجهة المسلمين قياساً على سلوك هرقل ‏في تعبئة جيشه لحرب الفرس، ‏التي يستخدم خلالها إثارة المشاعر الدينية المسيحية.

‏لقد كانت قوة هرقل ‏وبطولته حافزاً ‏لجنوده خلال معركته ‏مع الجيش الفارسي الذي كان يدرك أنه الأقوى عدداً وعتاداً، ‏لكن تلك المعركة كانت بين قوتين تستخدمان السلاح في حسم الصراع، فهل أدرك هرقل ‏أن هناك عوامل جديدة أكثر أهمية من القوة الغاشمة، ‏وأن المسلمين انطلقوا إلى العالم ليبنوا حضارة جديدة، ‏وينقلوا للبشرية الرسالة والمعرفة، ‏وأنهم سينتصرون بإيمانهم وأخلاقهم ورسالتهم قبل سيوفهم؟!

‏سوف نحاول البحث في أعماق التاريخ عن إجابات لهذه الأسئلة، ‏فهذه الإجابات يمكن أن تزيد فهمنا ‏لتجربة تاريخية مهمة نحتاج إلى قراءتها بعمق لكي نبني المستقبل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين