كيف أعلن محمد صلى الله عليه وسلم حقوق الإنسان

أحمد حسن الزيات

مقالة كتبها الأديب الكبير أحمد حسن الزيات ( بمجلته الرسالة عدد 913 بتاريخ 22 ربيع الأول 1370 هـ / أول يناير 1951م ) ليتحدث فيه عن إعلان حقوق الإنسان في الإسلام لحماية المستضعفين بمناسبة إعلان هيئة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان سنة 1949م وماذا يعنون بالإنسان ؟ ونفاق الذين يعلنون له اليوم هذه الحقوق !
 
***
 
كيف أعلن محمد صلى الله عليه وسلم حقوق الإنسان
أحمد حسن الزيات
في شهر ديسمبر من عام 1949، وفي فورة من فورات النفاق الدولي أعلن الساسة في ( هيئة الأمم المتحدة ) حقوق الإنسان ؛ ثم احتفلوا واحتفل معهم الناس بالذكرى الأولى لهذا الإعلان منذ عشرين يوما، فبَشَّروا بالنعيم المقيم والخير العميم والسلام الدائم .
ومن قبل هؤلاء الساسة ( الإنسانيين ) أعلن قادة الثورة الفرنسية هذه الحقوق عام 1789 وساقوها في سبع عشرة مادة جعلوها ديباجة للدستور سنة 1791 .
ومن السهل على الذهن الاجتماعي أن يعلل صيحة الثوار الفرنسيين بحقوق الإنسان بعد أن كابدوا ما كابدوا من استعباد النبلاء واستبداد القسس، وأن يفسر احتضان هيئة الأمم المتحدة لهذه الحقوق بعد أن رأت الحوت الشيوعي معترضًا في خضم الحياة وقد فَغَر فاه الهائل المروع ليلتقم الديمقراطية الرأسمالية وما تسيطر عليه من أرزاق الناس وأسواق العالم بالاستعمار أو بالنفوذ .
 
* * *
 
ولكن من الصعب على الذهن المنطقي أن يدرك ما يريده الأوربيون والأمريكيون من لفظ ( الإنسان ) الذي أعلنوا له هذه الحقوق وظاهروا عليه هذا العطف .
أغلب الظن أنهم يريدون بإنسان هذه الحقوق ذلك الإنسان الأبيض المترف الذي تحدر من أصلاب اللاتين أو السكسون أو التوتون .
أما الإنسان الأحمر في أمريكا فهو في رأي أبناء العم سام ضِرْب مهين من الخلق عليه كل واجب وليس له أي حق ؛ ولكن وجوده المعدوم في بلاد الديمقراطيين الأحرار لا يزال في رأي المسلمين بواشنطون، وأكبر لعنة على تمثال الحرية بنيويورك !
وأما الإنسان الأسمر والأسود في أفريقيا، أو الأخضر والأصفر في آسيا، فهو في نظر الفرنسيين والإنجليز نوع من بهيمة الأنعام، وجنس من المواد الخام، يُولًد ليُسَخَّر، ويُرّوض ليستثمر، وينتج ليُستهلك ؛ وهو موضوع الخصومة في السلم، ومادة الغنيمة في الحرب ؛ ولكن حقه المهضوم بين أمم العلم والدستور لا يزال في نظر المسلمين اتهامًا لصحة الثقافة في جامعات فرنسا، وإنكار الحقيقة العدل في برلمان انجلترا !
ومن هذا التفسير المزور لمعنى الإنسان في القديم والحديث اضطرب الأساس وفسد القياس واختلف التقدير ؛ فلكل جنس وزنه، ولكل لون قيمته، ولكل دين حسابه .
ومدار الوزن والتقويم والحساب على قدرة الإنسان وعجزه، لا على إنسانيته وفضله . فالعلم والغنى والقوة سبيل السيادة، والجهل والفقر والضعف سبيل العبودية . والسيادة حق ليس بإزائه واجب، والعبودية واجب ليس بإزائه حق .
 
* * *
 
المسلمون وَحدهم هم الذين يفهمون الإنسان بمعناه الصحيح لأنهم أتباع محمد، ومحمد وحده هو الذي أعلن حقوق الإنسان بهذا المعنى لأنه رسول الله . والله وحده هو الذي ألهم رسوله هذه الحقوق لأنه أرسله رحمة للعالمين كافة .
أرسله رحمة للذين استضعفوا في الأرض لقلة المال كالمساكين، أو لفقد العشير كالموالى، أو لضعف النصير كالأرقاء، أو لطبيعة الخِلْقة كالنساء، فكفل الرزق للفقير بالزكاة، وضمن العز للذليل بالعدل، ويَسَرَّ الحرية للرقيق بالعتق، وأعطى الحق للمرأة بالمساواة .
والمستضعفون الذين رحمهم الله برسالة محمد لم يكونوا من جنس مُبَيّن ولا من وطن معين ؛ إنما كانوا أمة من أشتات الخلق وأنحاء الأرض أجتمع فيها العربي والفارسي والرومي والتركي والهندي والصيني، والبربري والحبشي على شرع واحد هو الإسلام، وتحت تاج واحد هو الخلافة .
 
* * *
 
والإسلام الذي يقول شارعه العظيم { ولقد كرمنا بني آدم } لم يخص بالتكريم لونًا دون لون، ولا طبقة دون طبقة . إنما ربأ ببني آدم جميعًا أن يسجدوا لحجر أو شجر أو حيوان، وأن يخضعوا مُكرهين لجبروت كاهن أو سلطان .
كان اليهود يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه وسائر الناس سواءٌ والعدم !
وكان الرومان يدعون أنهم حكام الأرض وما سواهم خدم !
وكان العرب يقولون إنهم أهل البيان وما عداهم عجم !
وكان الهنود يعتقدون أن الله خلق البراهمة من فمه والراجيوت من عضده والمنبوذين من رجله ولا يستوي الأمر بين رأس وكتف وقدم !
وكان النظام الاجتماعي كله قائما على الامتياز بالجنس أو بالدين، وعلى السيادة بالنسب أو بالمال، حتى جاء محمد اليتيم الفقير الأمي بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ؛ فأعلن المساواة بقول الله عز اسمه : { إنما المؤمنون أخوة }، { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وأكدها بقوله صلوات الله عليه : (( الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى )) (( كلكم لآدم وآدم من تراب )) .
ثم كان الرقيق والمرأة شيئين من الأشياء لا يملكان ولا يتصرفان، فضيق الإسلام حدود الرِّق، وجعل كفارة الذنوب على الصدقة والعتق، وسوَّى بين الرجال والنساء في الحق والواجب .
ثم أعلن حرية العقيدة بقول الله تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } واحترم عقائد أهل الكتاب، وضمن لهم حرية العبادة وأمان العيش وعدل القضاء، وأمر الولاة أن يرعوهم ويعطفوا عليهم، وأوصى المسلمين أن يبروهم ويُقسطوا إليهم .
ثم أعلن الإسلام حرية الفكر والرأي فلم يقبل إيمان المقلد ولا حكم المستبد، وأمر بالنظر في ملكوت السموات والأرض، ووَّسع صدره لأهل السياسة حتى تعددت الأحزاب، ولأهل الجدل حتى كثرت الفِرق، ولرجال الفقه حتى تنوعت المذاهب . وسمح لأهل الذمة وأصحاب النحَِّل أن يدعوا إلى أديانهم ويدفعوا عنها في المدارس والمجالس والبِيَع، ونهانا ألا نجادلهم إلا بالتي هي أحسن .
ثم احترم الملكية وثبت لها الأُصول، ونَظَّم المواريث وَرَتَّب عليهم التعامل، وهذه جماع الحقوق الطبيعية التي كفلها الإسلام للإنسان على اختلاف ألوانه وأوطانه وألسنته .
أعلنها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم منذ ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن، والأمر يومئذ للجهالة، والرأي للضلالة، والحكم للطغيان، فأنقذ بها الإنسانية من إسار المادية والعصبية والأثرة، ثم أكرمها ونعمها وهداها الطريق المستقيم إلى نظام أكمل وعالم أفضل وحياة أسعد .
ولكن الإنسانية واأسفاه أضِلت هذه السبيل ! أضلها أولئك المنافقون الذين يعلنون لها اليوم هذه الحقوق، وهم يُسِرُّون في أنفسهم تأكيد الامتيازات وتأييد الفرق ! .
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين