كيد ضعيف مهزوم

كان إبليس قد هرب بعيداً بعيداً حتى لا يسمع صوت المؤذن يدعو الناس إلى الخير والفلاح، ودربِ السعادة والنور، فلما أن أتم المؤذن أذانه، استجمع إبليس شجاعته، وعاد من حيث اختفى في خربة قديمة مهجورة، وحاول أن يغتصب من بين شفتيه ابتسامةَ أمل وقوة، ومضى بين الدروب يبحث عن موضع شر يرتاح فيه، أو فتنة يؤججُ نيرانها، وطفق يلتفت هنا وهناك، ويسارع ويبادر، لا يكاد يرى حجراً إلا قلَّبه، ولا مكاناً إلا ذَكَره، ولا موضعاً يعهدُ فيه فتنةً نشبت ذات يومٍ إلا مضى إليه، ولا رجل سوءٍ وأذى إلا أَرْقَلَ نحوه.

وهنا أحسَّ بضعفه، فقد كان له في مكةَ المكرمة أعوانٌ وأنصار، أقوياءُ أشداء يساعدونه في نشر الشرور والخطايا، ومحاربة الصلاح والهداية، وتذكَّر مِن هؤلاء أبا جهلٍ وأبا لهب، وغيرهما من أعوانه وأنصاره فبرقت عيناه بشيءٍ من الأمل والعناد، لكنَّ الحسرة ما لبثت أن غلبته حين تذكرَ نهايتَهما الحافلة بالعبر والعظات، وانحسار دول الشر، وانتشار نور الإسلام.

وبينما هو كذلك، لفتَ نظرَه مشهدٌ عجب، لقد أبصرَ رجلين يمشيان معاً، أحدهما أبيضُ جميلُ الشكل، أشقرُ الشعر، أخضرُ العينين، والآخر أسودُ البشرة، فاحِمُ السواد، مفتّل الشعر، راعَ إبليسَ وأشجاه وأثار في نفسه الأحزان والأسقام وفتكَ بأعصابِه وآماله، ودمَّر عزمه وهِمَّته؛ أنْ لَمْ يَرَ بين الرجلين إلا المودة والمحبة، والتعاون والإيثار، والصدق والحنان. كانا يبتسمان في هدوء، ويتحدثان في مودة، ويتحاوران في أدبٍ وسكينة، كان كلٌّ منهما يستمع إلى الآخر بلطف وذوق وإقبال، وكانت علاماتُ الأمنِ الداخلي، والانسجام مع النفس ومع الآخرين، والهدوءِ الباطني العميق، والسكينةِ المتأصِّلة في أعمق الأعماق باديةً على الوجهين المسلمين، اللذينِ أشرقا بنورٍ هادئٍ وضيء، وابتسما عن سعادةٍ وهناءةٍ وقناعة، وكانت ملامح السيادة على الذات والإحساس بالتفاهم مع الكون، والانسجام مع الفطرة بارزةً على الوجهين الصادقين المسلمين، اللذينِ طهَّرهما الوضوء المتكرر، والسجودُ المتعاقب، وعبادة الله عز وجل آناء الليل والنهار.

كان الرجلان، قلباً وقالباً، مظهراً وباطناً، عقلاً وعاطفة، سلوكاً ومعايشةً نموذجاً كريماً لمقدرة الإسلام على التهذيبِ والإصلاح، كانا مسلمينِ حقاً، وذلك ما راع إبليس وأشجاه، خاصةً أنهما في الشكل واللون مختلفان متباينان، لكن ذلك لم يسبب لهما أيَّ عداوة، ولم يوقد بينهما أيَّ بغضاء، ذلك أنهما ارتفعا بالإسلام فوقَ ما يختلف الناس عليه من جاهليات شتى، ومنها جاهليةُ السحنة واللون.

أدرك إبليس ذلك جيداً، وأدرك أنهما أخوان صادقان، دفعهما الإسلامُ فوقَ الفوارق الزائفة، ووحَّدَ بينهما، وجمع مسعاهما صور المصير العظيم المشترك الذي يُهِيبُ بالمسلمين جميعاً أن يتجهوا إليه طلباً لرضوان الله عز وجل، تمكيناً ونصراً في الحياة الدنيا، وجنةً ومغفرةً في الآخرة، وهو: إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة خالق العباد، ومن جَوْرِ الأديان، إلى عدلِ الإسلام، ومن ضيقِ الدنيا إلى سعةِ الآخرة، وتحريرُ الناس من كل الجاهليات والضلالات وهدايتهم وقيادتهم صوبَ الدين الحق، والنور المضيء، دين الإسلام الخالد العظيم، ونور القرآن الساطع الوهاج.

إن إبليس لَيَعِي جيداً أن جاهليةَ التفريقِ بين الناس بسبب السحنة واللون، إحدى دعائمهِ القوية، وأساليبه الماكرة الناجحة، لنشرِ الشرِّ بين الناس، وإيقاع الأذى والسوء بين العباد، فما أكثرَ ما استطاعَ بسببها أن يوقدَ الأحقاد، ويوقع الجرائم التي جعلت دولة الشر تنمو وتزدهر في كثير من الأمكنة والأزمنة!.

أدرك إبليس ذلك كلَّه، وأدرك عُمْقَ التحول الذي أحدثه الإسلام في الناس، وسعَةِ النُّقْلَةِ التي أحدثها في حياتهم، وشاهد أسلحتَه وقد فُلَّت، ومكرَهُ وقد بَطُل، وسحره وقد زال، وتمثل هزيمته من خلال نظرته للرجلين المسلمين الأسودِ والأبيض، فأدام النظرَ إلى وجهيهما الكريمين، فحزن حزناً متضاعفاً، وعصفت به الأشجان، وانتابته نوبةٌ من البكاء الشديد، وهرب بعيداً بعيداً لا يلوي على شيء.

*****

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين