كل عام و انتم بخير....عام هجري .. جديد ؟!!

انتزعت ورقة التقويم الأخيرة .. قلبتها بين يديها لحظة .. همست لنفسها كما اعتادت : غداً يوم آخر, فطنت إلى أنها الورقة الأخيرة في التقويم, آه .. غداً عام آخر .. عام جديد, قرأت الورقة التي تليها " كل عام وأنتم بخير" ..تساءلت :  هل نحن حقاً بخير ؟؟ أم هي أمنية صفتها أنامل عامل المطبعة دون وعي ؟؟ وتقليد اعتدنا أن نكرره في بداية العام الجديد دون أن ندرك معناه حقاً ؟؟


تذكرت أمها وكيف كانت تطبخ "الحبوب*" ليلة العام الهجري الجديد- على عادة كل الأسر- وتحرص على أن يتناولوه مع طبق "المأمونية*" الحلو, صبيحة أول أيام المحرم وهي تردد: (كلوا .. حتى تكون سنة حلوة عليكم جميعاً ).. فكرتْ .. ما علاقة الطعام ذي النكهة السكرية بحلاوة العام الجديد ؟ أم هي أيضاً أمنية لم تعرف أمها كيف تحققها لهم, فعبرت عنها باختيار الطعام الحلو المذاق ؟


ها هي الآن أم .. وغداً يطل أول المحرم .. فماذا تتمنى لأولادها, وكيف تعبر عن أمنيتها تلك ؟ ورحلت بخواطرها إلى الحبيب المصطفى .. إلى المعاناة والمشقة والتعب.. معاناة تهون في سبيل بناء حياة جديدة ينعم بها أبناء العقيدة, ويتذوقون في أحضانها معنى الإسلام الحق, ويجدون في تطبيقه حلاوة وأي حلاوة .. وينقلون ذلك كله إلى جيل جديد قادم, يجنبونه وعثاء الطريق وينقذونه من مشقة الحيرة والتخبط في متاهة البحث عن حلاوة الأيام والسنين .


هي هجرة إذن ..وليست عيداً أو مجرد ذكرى, ويجب أن تبقى هجرة كما كانت بالأمس.. اليوم وغداً وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, ولكن كيف ؟؟


تأملت واقعها .. كيف تمضي الأيام والليالي في بيتها, في مجتمعها, في وطنها كله, وفكرت.. هل نحن بواقعنا هذا كما يحب الله ورسوله r ؟؟!!


اللهم لا .. ماجت بها روحها كما تموج دوامة البحر, وكادت أن تخنقها بواقع مؤلم تبدى جلياً أمام ناظريها.. لا والله.. ما هكذا يريدنا الله ورسوله r .. وليس هذا ما نتمناه لأنفسنا أبداً .
إذن ما العمل ؟ هل تقدر على مشاق الهجرة ؟ ومن أين تبدأ ؟ وكيف ؟؟؟
أرهقها التفكير لحظات.. وسرعان ما ارتسمت في مخيلتها صورة أبيها رحمه الله, يحكي لهم قصة الهجرة, وهم بعد صغار..يلتفون حوله, يتنازعون القرب منه لتشرب قلوبهم قبل آذانهم دقائقها وتفصيلاتها, ويزدادون التصاقاً به كلما ازداد تأثراً وهو يرويها, وكأنهم يخففون عنه, ويَعِدُونه- دونما كلمة- بالسير على الطريق وحفظ الأمانة .
وعرفت كيف تبدأ ..
ستبدأ يومها غداً بطبق المأمونية المعتاد.. لكنها سترفقه بحكاية الهجرة, ليست هجرة الحبيب المصطفى وقد قصتها عليهم سابقاً.. بل هجرة جديدة, تحكي هجرة الأفراد من الأخطاء والذنوب والسلبيات, وهجرة المجتمع من الباطل والظلم والقطيعة والفساد.
 ستحدثهم عن الظلم والفقر والجوع والتشريد في أدنى الأرض, وتقص عليهم حكايات التنصير المروعة في أقصاها, وتحكي لهم عن فئات تصدت لكل ذلك بإيمان حي وروح جديدة, تستلهم خطى الحبيب فتحيي القلوب مع الأبدان..
ثم .. تسألهم أن يفكر كل منهم فيما يجب عليه أن يهجره بدءاً من العام الجديد .. وتطلب منهم أن يبدأوا حقاً في ذلك دون تسويف أو كسل, وترجوهم أن يهجروا غلظة الفؤاد, وبعض ما هم فيه.. من رفاهية الجسد المتثاقل إلى الأرض, ليحلقوا بأرواح طليقة في أرجاء سماوات عابقة برضى الله..مستعينين على ذلك به سبحانه, مستمدين العزم من هجرة نبيه r ..
سترسم لهم خطوط الطريق وتنيره بمصابيح الأمل, وتحثهم على السير فيه قدماً.. ليكونوا طليعة جيلٍ قادرٍ على تحريك الأفئدة الميتة والضمائر المتبلدة, حريصٍ على بث الأمل في القلوب اليائسة والنفوس الواهنة .
 ولن تنسى أخيراً .. أن تدعو الله لهم بالعزم والثبات .
 وقامت تخط بقلمها كلمات تعلقها على جدار الغرفة :
" هجرة مباركة .. في بدء عام جديد, تدعونا لنهجر جميعاً  أخطاءنا وذنوبنا, وقسوة قلوبنا و.. يأس أرواحنا " .
ثناء محمد كامل أبوصالح
* الحبوب : طبق معروف في عدد من الدول العربية, يصنع من الحبوب والسكر ويزين بالمكسرات .
* المأمونية : طبق شعبي سوري, يُصنع من السميد والسكر والسمن والماء أو الحليب, ويقدم غالباً في الأعياد أو صبيحة الزفاف .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين