كلمة في الاجتهاد والتقليد

ندبتني وزارة العدل في سورية إلى إعداد مشروع لقانون الأحوال الشخصية، وكان العمل في المحاكم الشرعية بالراجح من مذهب أبي حنيفة، إلا ما نص على غيره في "قانون العائلة" الذي أصدره العثمانيون قبل الحرب الأولى وعدلوا فيه طائفة من الأحكام تشبه في الجملة ما اشتملت عليه القوانين التي صدرت في مصر قبل سنة 1930، وبقي العمل بهذا القانون إلى الآن، فكان المرجع القانوني للقضاة في الأحكام الموضوعية قانون العائلة، فإن لم ينص فيه على حكم رجع إلى كتاب الأحكام الشرعية لقدري باشا رحمه الله تعالى، وغلى كتب الفتوى في المذهب كحاشية ابن عابدين، وتنقيح الحامدية وجامع الفصولين وأمثالها من كتب المتأخرين.

فلما شرعت بإعداد المشروع جعلت كتاب قدري باشا (الأحكام الشرعية) هو الأصل، ووضعت أمامي (قانون العائلة) والقوانين المصرية، وكتب المذهب والمذاهب الثلاثة الأخرى، وغيرها من الكتب الفقهية ككتاب الشوكاني وابن حزم وابن تيمية وابن القيم، ونظرت فعرضت لي مشكلة: هل ينبغي الوقوف في الترجيح عند ما رجحه الفقهاء المتأخرون وعلى رأسهم الامام ابن عابدين جزاه الله خيرا؟ ثم جاوزت ذلك فسألت نفسي: هل يجب أن نقتصر على المذهب الحنفي؟ ثم سألت: هل من الواجب علينا التقيبالمذاهب الأربعة الرسمية؟

وإذا أردنا أن نأخذ من غيرها هل نصنع كما صنعت مصر، فنعين أولاً الحكم الذي نراه أوفق للمصلحة ثم نفتش عن قائل به، سواء أكان هذا القائل معروفاً أم مجهولاً، وكان هذا القول مروياً بسند المتصل أم كان مذكورا عرضاً أو منقولاً على لسان المخالف للرد عليه؟ أم ننظر في الدليل، فإن قام دليله أخذناه وإلا نبذناه؟

وجرتني هذه الأفكار إلى تحديد موقفي (كما يقولون اليوم) من مسألة الاجتهاد والتقليد.

ولما كنت قد نشأت نشأة غريبة؛ فواليت الدراسة في المدارس النظامية الابتدائية والثانوية والعالية، وكنت مع ذلك أتردد صباحاً ومساء على المشايخ وأجلس في حلقاتهم وآخذ عنهم العربية والفقه على الأسلوب القديم. وكنت قريباً من جوهم إذ كان والدي من أعيان علماء الشام وكانت إليه أمانة الفتوى في دمشق. فكان أول ما استقر في ذهني أن الاجتهاد سد بابه من قرن كذا (نسيت الآن من أي قرن سدوه)، وأن القائلين بفتحه مبتدعة ووهابية لا يعتد بهم ولا يلتفت إليهم، وأن للفقهاء طبقات في التقليد عدها ابن عابدين في أول الحاشية، وأن علماءنا الأحياء في الطبقة الدنيا منها، وأنهم ليسوا أهلاً للتخريج أو الترجيح فضلا عن الاجتهاد.

ولكني فكرت بهذا المبدأ بحكم دراستي النظامية ونقدته بعقلي الآخر الذي كونته المدارس وعلومها، فوضح لي أن هذا المبدأ صحيح إن كان المراد بالاجتهاد أن نلغي كل ما وصل إليه فقهاء المذاهب الأربعة ونؤسس مذهباً خامساً من جديد، نضع له أصولاً جديدة ونبني عليها الفروع الجديدة، فنكون كمن يهمل كل ما وصلت له صناعة الطيران ويعيد محاولة العباس بن فرناس ليصنع طيارة يطير بها!

أما إن كان المراد منع الاجتهاد إطلاقاً فليس بصحيح؛ لأنها قد تجد أحداث لم تكن على عهد ابن عابدين ولا بد فيها من بيان حكم الله، والكلام فيها يعد من الاجتهاد. ثم إن سد باب الاجتهاد بالكلية حظر على الله أن يخلق كأبي حنيفة، وهذا محال.

فلما توثقت عرى المودة بعد ذلك بيني وبين العالم النبيل الشيخ محمد بهجة البيطار، وهو ممثل مدرسة المنار في دمشق، صح التعبير، بلغتني مقالة له بمنع التقليد ووجوب الاجتهاد على جميع المكلفين أعجبتني هذه المقالة لجدتها، ولأنها حررتني من تلك التي كنت أشك فيها وأشكو منها. ولكني لما أمعنت النظر فيها وجدتها أكثر إمعاناً في الخطأ من تلك وأبعد عن الصواب.

فحاولت أن أبعد عن ذهني أقوال الطرفين وأن أجد السبيل إلى الحق بينهما؛ فرجعت إلى أدلة الشرع فلم أجد نصاً في المسألة، ووجدت أن الصحابة كان يفتي منهم أقل من ثلاثين ويرجع الباقون إليهم ويأخذون بأقوالهم، ولكن من غير التزام لمذهب واحد منهم بعينه، أو تسمية لمقلد ومجتهد أو ذكر لاجتهاد وتقليد.

فلما لم أقع على نقل في المسألة يوقف عنده رجعت إلى العقل، فوجدت أن لكل علم من العلوم منقطعين له مشتغلين به، وغرباء عنه زاهدين فيه جاهلين بأحكامه.

فإذا كانت لك قضية في المحكمة ولم تكن من أهل القانون اضطررت إلى الرجوع إلى المحامين و"تقليد" أحدهم فيما يؤدي به إليه "اجتهاده"، وإن عزمت على بناء دار رجعت إلى المهندسين، وإن مرض ولدك راجعت الأطباء، فإن رأى الطبيب الذي درس في فرنسا شفاء الولد في علاج، ورأى الطبيب الذي تخرج في أمريكا مضرته في هذا العلاج، ولم يكن بد من تقليد أحدهما، ولم يكن لك طريق إلى ترجيح واحد من القولين فماذا تصنع؟ تستفتي قلبك وتميل إلى ما يميل إليه!

فلا بد إذن من التقليد في علم الدين وفي علوم الدنيا، لأنه يستحيل أن يكون كل إنسان عارفاً بكل علم له فيه رأي وبحث واجتهاد. لكن إن كنت ملما بمرض معين؛ كأن سبقت لولدك الاصابة به وجرب العلاج وعرف أثره، فإنه لا يمنعك من الترجيح بين الأطباء ومن الرد على أحدهم ولو لم تكن طبيبا ولا عالما بالطب.

وكذلك من بحث في مسألة من مسائل الفقه ونظر في أدلة من تكلم فيها، وكان به معرفة بعلم الأصول ومقدرة على فهم كلام العرب، لا يمنعه من أن يكون مجتهداً فيها أنه لا معرفة له بغيرها، ولا يسعه تقليد من يقول بعكس ما أوصله إليه اجتهاده.

فإذا كنت أديباً متمكناً من العربية وراجعت في مطولات كتب الفقه باب القراءة خلف الإمام ـ ونظرت في أدلة كل فريق ورجعت إلى كتب الحديث فعرفت درجة كل حديث منها، ومبلغه من الصحة ـ وكان لك إلمام بالأحوال ـ ورأيت أن الحق مع المالكية في الإنصات عند جهر الإمام، والقراءة عند إسراره، كنت مجتهداً في هذه المسألة، ولم يجز لك أن تقلد فيها أبا حنيفة وإن كنت  حنفياً، بعد هذا الاجتهاد.

وفكرت بعد ذلك في التلفيق: هل يجوز؟

فرأيت أنه لا بد من التفريق بين التلفيق عن هوى أو عن نظر واجتهاد، وبين أن يكون من العامي أو من العالم.

أما التلفيق عن هوى أو من العالم بأنه تلفيق فلا يجوز، وأما التلفيق عن بحث ونظر أو من العامي فجائز، لأن العامي لا مذهب له ومذهبه مذهب مفتيه.

هذا كله للفرد الواحد، ليقيم أمر دينه ويبرئ ذمته, أما في التشريع للناس فلا بد من مع النظر في صحة الدليل من معرفة حاجة الناس، وجعل العرف (إن كان عاماً) ومصلحة الناس من جملة الأدلة، وهذا ما جرى عليه علماؤنا حين جعلوا من الأدلة رفع الحرج، وعموم البلوى، والعرف، وبنوا على ذلك فروعاً كثيرة معروفة وقواعد، أن للإمام أن يأمر بالمباح فيصير واجباً (ذكر ذلك في الحاشية والأشباه)، وأن يأمر الحكام بإتباع أحد القولين.

ولقد وجدت خلال اشتغالي بوضع مشروع القانون أن في المذهب أحكاماً ثابتة بالنص القطعي، كمنع الوصية للوارث.

وأحكاماً فيها نص ولكن النص فيها كالفقرة الحكمية المبنية على "حيثيات". أخذ القوم بالحكم وحده (وهم الذين كانوا يسمون بأصحاب الحديث) وقوم كانوا أبعد نظراً وأدق فهماً، نظروا إلى "الحيثيات" والأسباب، فلم يجعلوا الصاع من التمر في مسألة المُصَرَّاة هو القاعدة، بل ثمن اللبن الذي أخذه المشتري من الضرع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما حدد الصاع إلا لأنه كان عدلا له. ولعل من ذلك في رأيي حكم الربا، في مبادلة القمح بالقمح مع الفضل، فلقد كان ملاحظاً فيه أن القمح كله نوع واحد، أفلا يتغير الحكم إن ثبت اليوم بالعرف العام أن القمح أنواع مختلفات بالخصائص والأثمان؟

وأحكاماً مبنية على استقراء، كتحديد أكثر الحمل بسنتين عندنا. ولا يمنع مانع من تبديل هذه الأحكام إن ثبت بالاستقراء التام غير ما ثبت لدى الأولين بالاستقراء الناقص.

وأحكام مبنية على نص بوصف من الأوصاف، لكن النص لا ينطبق عليها بوصف غيره، كابن المحروم لا يرث من جده مع وجود الأعمام، ولكن يعطى مثل نصيب أبيه (في حدود الثلث)بوصف ذلك وصية واجبة.

وقد كان في نفسي من ذلك شيء: كيف يحرم الله هذا الحفيد ونعطيه نحن؟ وترددت قبل وضع هذا الحكم في مشروعي وجادلت الأستاذ السنهوري فيه جدالاً طويلا، ثم شرح الله صدري حين كرت أن المسلمين الأولين كان يكفيهم الندب لإعطاء هذا الحفيد، فلما قصر الناس في أداء المندوبات كان من المصلحة أمر الحاكم الناس به، وكان في ذلك تحقيق الإعطاء الذي أراده الشرع حين ندب إليه.

وأحكاماً مبنية على نص يقابله نص آخر وليس من مانع من الرجوع للنص الآخر، كمسألة طلاق الثلاثة بفم واحد.

وأحكام مبنية على اجتهادين: اعتبار مدلول اللفظ أو قصد المتكلم (كمسألة الحلف بالطلاق) أو استعماله للبحث على فعل أو المنع منه، ولا وجه لايجاب أحد الاجتهادين حتماً ومنع الآخر حتماً.

وأحكاماً لم ينص عليها نستطيع أن نقرها سداً للذريعة؛ كمنع المتزوج من الزواج مرة ثانية إلا بعد إثبات مقدرته على الإنفاق عليهما معاً، وذلك خير من الإذن له بالزواج ثم إيقاع الطلاق عليه لعدم الانفاق. أو تحقيقاً للمصلحة، كمراعاة الكفاءة في السن بين الزوجين وعدم الإذن له بالزواج إن كان الفارق بينهما فاحشاً (أربعين أو خمسين سنة مثلا). أو إيجاباً لمندوب كأن نلزم من يطلق زوجته طلاقاً تعسفياً يؤدي بها إلى العوز والفاقة بتعويض فوق المؤجل يقدره القاضي.

هذه خواطر ما أردت بها الإحاطة بالموضوع، ولكن فتح باب البحث فيه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة الأزهر المجلد 24 صفر 1372هـ الجزء الثاني.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين