كلمة عن

 

لم يكن "الدخان" في مقالتي الأخيرة (التي نشرتها أمس) إلا مثالاً على أهمية إصلاح المجتمع بالدعوة والتربية والإقناع. وقد قرر علماؤنا أنه "ليس من دأب المحصّل المناقشةُ في المثال"، أي أن أصل الفكرة هو ما ينبغي أن يركّز طالبُ العلم عليه ولا يشتّت نفسَه بالمثال الذي ما ضُرب إلا لتوضيحها، ولكنّ بعضَ القراء الكرام تركوا الفكرة واشتغلوا بالمثال، فقد أزعجهم قولي إن "الدخان" محل خلاف وإنه يتراوح بين الكراهة والتحريم، وردّوا بأن أهل العلم متفقون على تحريمه، فلا يجوز فيه قولٌ آخرُ لأنه -كما قالوا- حرام بالإجماع.

 

هؤلاء الأفاضل ذكّروني بالمتفائلين الذين ما يزالون يطمعون في حسم مسائل خلافية بمجرد ادعاء الإجماع فيها ونفي الرأي المخالف، كوجه المرأة والموسيقى ومسّ الحائض للمصحف وطلاق الثلاث بلفظ واحد، وأمثال هذه المسائل الخلافية المشهورة التي عجزت القرونُ الطويلة عن حسمها. فإذا سُئل الواحد منهم عن المسألة أجاب بقول واحد وكأنه لا قولَ سواه، رغم أن القول الآخر قد يكون آكَدَ وأرجحَ عند أهل العلم، كما هو حكم كشف وجه المرأة، فالراجح الصحيح في المذاهب الأربعة أنه ليس من العورة الأصلية.

 

وأنا لا أنفي حق المفتي في اختيار الحكم الذي يرتاح إليه، ولكني أؤكد حق المستفتي في أن يعرف أن المسألة خلافية. وقد أنصف علماؤنا الكبار حينما عرضوا المسائل بكل ما فيها من أقوال ثم رجّحوا اختيارهم فيها، كما صنع الشيخ الموفق في "المغني" على سبيل المثال.

 

*   *   *

 

لا ريب أن ادعاء الإجماع في أي مسألة من المسائل مجازَفةٌ كبيرة، فعلى المفتي أن يتورع عن روايته إلا في المواضع التي يكون واثقاً من تحقّقه فيها. وهو في كل الأحوال أمر عسير لم يَنجُ من العثرة فيه الأكابر، كما وقع لابن حزم في "المراتب" وللجصّاص والسبكي وابن رجب الحنبلي في ادعاء الإجماع في الطلاق بالثلاث، وفي كتب الفقه ما لا يُحصى من الأمثلة في هذا الباب.

 

إن "الإجماع" ليس بالبساطة التي يظنها كثير من عامة الناس وبعض طلبة العلم، وهذه أهم النقاط التي تساعد على فهمه بشكل أفضل:

 

1- يختلف علماء الأصول اختلافاً طويلاً عريضاً في تعريف الإجماع: هل هو إجماع الصحابة فقط أم إجماع علماء العصور التالية؟ وهل هو إجماع علماء مصر من الأمصار أم إجماع علماء أمصار الإسلام كلها؟ وهل يُعتبر بأهل العصر في حياتهم أم يلزم انقراض العصر حتى يسمى إجماعُ علمائه إجماعاً (لأن الحيّ يمكن أن يغير رأيه)؟ وما هي صفات العلماء المجتهدين الذين يُعتبَر بقولهم الإجماع (أي كيف يسمَّى المجتهدُ مجتهداً)؟ إلى غير ذلك من أبواب الخلاف، وهي كثيرة.

 

2- تبع ذلك اختلافُهم واضطرابهم في تحديد مسائل الإجماع، ولعل أبرز مثال على ذلك هو الإمام ابن حزم الذي ألف كتابه "مراتب الإجماع" وقال في مقدمته: "إنما أدخلت في هذا الكتاب الإجماعَ التام الذي لا مُخالِفَ فيه البتّة"، ثم تابعه الإمام الكبير العظيم ابن تيمية في "نقد مراتب الإجماع" فبين خطأه في سبع وأربعين مسألة ونفى عنها صفة الإجماع.

 

3- لذلك ذهب كثير من العلماء إلى أن مُنكِر الإجماع لا يكفر إلا إذا تيقن أن الإجماع من شرع الشارع (فإنه يكفر في هذه الحالة بإنكار الشرع الذي يقرّ به لا بإنكار الإجماع نفسه). قال إمام الحرمين الجويني: "فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر، وهو قول باطل قطعاً، فإن منكر أصل الإجماع لا يكفر، والقول بالتكفير والتبرّي ليس بالهيّن". وقال الآمدي: "إذا كان حكم الإجماع داخلاً في مفهوم اسم الإسلام كالعبادات الخمس ووجوب اعتقاد التوحيد والرسالة فإن جاحده كافر، وإن لم يكن كذلك، كالحكم بحل البيع وصحة الإجارة ونحوه، فلا يكفر جاحده".

 

4- يلاحظ المتتبّعُ أن أكثر المسائل التي توصَف بأنها من مسائل الإجماع هي في الحقيقة من مسائل الجمهور، والفرق بين الاثنين هو في عدم وجود المخالف، فإذا اتفق سواد الفقهاء على رأي في مسألة وخالفهم قليلٌ أو آحاد عُدَّت المسألةُ من مسائل الجمهور وحُكيت بهذه النسبة (قال الجمهور). وقد تتبع عدد كبير من الأئمة مسائل الجمهور وبيّنوها في أزمانهم، كأبي بكر بن المنذر في كتابه العظيم "الإشراف على مذاهب أهل العلم"، وأبي الحسن الماوردي في كتابه الجليل "الحاوي الكبير"، والموفق بن قدامة (المقدسي ثم الدمشقي الصالحي) في "المغني"، وغيرهم.

 

5- لعل أظهر تعريف للإجماع هو "توافق المجتهدين في عصر من العصور على مسألة يظهر فيها اتفاقهم بالفعل والقول، دون أن تخرق إجماعَهم معارضةُ من مجتهد مثلهم". فإذا لم يشترك في بحث المسألة أو لم يسمع بها مجتهدون آخرون يعيشون في العصر نفسه فإن الإجماع لا يتحقق، لأنهم يمكن أن يخالفوا رأي الآخرين لو اشتركوا في بحث المسألة.

 

*   *   *

 

إذا علمنا كل ما سبق أدركنا حجم المجازفة التي يرتكبها من يتسرّع باستعمال تعبير "مسألة مجمَع عليها"، والأسلم أن يَعتبر ما يحسبه من الإجماع قولاً لعامة الفقهاء (الجمهور) لكي ينجو من خطأ غالب، لأن الإجماع يصعب إثباته، ولكيلا يعسّر ويضيّق، لأن الاختلاف في الفروع فيه رحمة وتيسير على الناس؛ هذا ما يدل عليه قولُهم "اختلاف أمتي رحمة"، وهو قول منسوب للقاسم بن محمد وليس حديثاً كما يُشاع بين الناس، ولكن معناه صحيح.

 

وأنا أرى أن من واجبات الدعاة والعلماء أن يوسعوا على الناس وأن يَعْرضوا أوجهَ المسألة الواحدة كلها، أما التضييق فإنه تنفير عن الدين، وأشبّه هذا بقيادة السيارة في طريق عريض فيه ثلاثة مسارب يستطيع السائق أن يسوق فيها بأي سرعة يحبّ، فالبطيء يلتزم أقصى اليمين، والمسرع يأخذ الجهة اليسرى، والمتوسط يسوق في وسط الطريق.

 

ليقارن أي واحد فينا بين قيادة سيارته في طريق هذه صفتُه وقيادتها فوق جسر ضيق يمتد فوق واد عميق، ولا يكاد يزيد عرضه عن عرض السيارة إلا أصبعين عن اليمين وأصبعين عن الشمال. كم يبلغ العنت في قيادة سيارة فوق جسر بهذا الضيق؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين