كلمة حول ما أثير عن الإمام الكشميري رحمه الله 

إنَّ موقع "رابطة العلماء السوريين"من المواقع النافعة يتحفنا عموماً بمقالات رصينة وفوائد علمية وتراجم الراحلين من ذوي العلم والأدب من بلاد الشام وغيرها، وإن وجود الأستاذ الجليل والعالم النبيل الشيخ مجْد مكّي على رأس هذا الموقع ضمان إن شاء الله تعالى لسلامة المنهج، ولكن كما قيل: لكلّ جواد كبوة يأتي - نادراً- بعض منْ يعكر الصفو، فنرى نماذج من التطاول على السابقين أو دعاوى عريضة حول بعض قضايا الفقه والأصول أو الأحكام الجائرة على بعض الكتب أو الشخصيات!!

ومن هذا القبيل ما قرأناه بقلم الكاتب صلاح الدين الإدلبي من نقد غير مبرَّر وبأ سلوب غير لائق به ولا بالموقع ولا بالإمام الكشميري رحمه الله الذي يعرفه علماء الشام أكثر من غيرهم خاصَّة من اطَّلع على أوَّل شخصية عملاقة اختارها الشيخ العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة في كتابه "تراجم ستة من فقهاء العصر" أو قرأ مقدمة "التصريح بما تواتر في نزول المسيح" إضافة إلى أماليه على صحيح البخاري وجامع الترمذي ورسائل الكشميري وغيرها، أو قرأ ما قاله شيخ الإسلام مصطفى صبري والعلامة المحدث الكوثري والعلماء المحققون الآخرون عن إمامته في علوم الحديث ومعظم فروع المعرفة وذاكرته الخارقة التي تذكر بالأئمة الزهري والذهبي وابن حجر العسقلاني رحمهم الله جميعا أو اطلع على كتاب "نفحة العنبر في ترجمة إمام العصر الشيخ محمد أنور"

إنَّ نقد السيد الإدلبي يدور حول مسألة جزئيَّة جاءت في "فيض الباري" من أمالي الإمام الكشميري على صحيح الإمام البخاري في موضوع "إلصاق الكعب بالكعب والمنكب بالمنكب" أثناء وقوف المصلي في الصف وكلام الشيخ موجود في" العَرف الشذي" أماليه على جامع الترمذي أيضا.

أورد الناقد " تعقيبات" وسمَّاها "مؤاخذات" وصوَّر المسألة كأنَّ الامام الكشميري لم يفهم الحديث وعنده خلل في فهم اللغة كما لم يفهمه الحافظ ابن حجر ولم يفهمه العلامة العيني من غير أن يستوعب الناقد ما قاله هذا الإمام الجليل.

ولا مانع عندي من الاختلاف في الرأي أو الرد إذا كان الأمر فعلا يستحق الرد والتعقيب شريطة أن يكون النقد علميا منهجيا ويراعي في الرد أدب الحوار والمناقشة من غير تجهيل أحد من الأئمة الأعلام.

وموقف الإمام الكشميري في المسألة أوضح من الشمس، وفيه تنبيه لطيف على مغالاة بعض الشباب المتحمسين غير مدركين لمعنى الحديث فبدل أن يقفوا متراصّين بالمصلين الواقفين عن يمين وشمال يفرّجون بين أقدامهم بشكل فاحش يصعب معه التراص والالتصاق ولا يتركون لمن يقف بجنبهم مجالا للهدوء أو الخشوع ويشغلونهم طوال الصلاة ببسط القدمين في حالة الوقوف وتكميشهما وقت الركوع والسجود، ثم العودة إلى نفس حالة التفريج بين القدمين ما يخلق حالة الكراهية والاشمئزاز خاصة بين كبار السنّ من المصلين لما يلحق بهم من أذى وإزعاج مستمر، وهذا ما أراد الإمام الكشميري التنبيه عليه بأنه ناشئ من تطبيق غير صحيح لتوجيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وقد سبق أن نبَّه عليه الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري " والإمام بدرالدين العيني في "عمدة القاري" فأشارا إلى أن الشارع الحكيم لم يقصد إلزاق الكعب بالكعب بالتفريج الزائد بين القدمين، بل بالتراصّ والتسوية والوقوف بشكل طبيعي من غير تكلف وإيذاء من يقف جنب المصلي يمينا أو شمالا وهو الثابت بتعامل المسلمين عبر القرون فلم ينقل عن أحد من الصحابة أو التابعين أنهم كانوا يفرجون بين أقدامهم بصورة فاحشة غير طبيعية. نعم ورد التأكيد على التراصّ وعدم ترك الفرجة وعبر عن ذلك "بالإلزاق" حينا واكتفى بذكر "المحاذاة" حينا آخر، والمحاذاة تتحقق من غير"إلزاق أو إلصاق" وهذا الذي جعل الأئمة المحدثين الفقهاء: ابن حجر والعيني والكشميري أن يبينوا أن المراد مما نقله الصحابيان الجليلان النعمان بن بشير وأنس رضي الله عنهما هو المبالغة في التراصّ والتَّسوية وعدم ترك الفرجة للشيطان بين الصف.

يقول العلامة المحدث محمد يوسف البنوري وهو أوثق تلاميذ الإمام الكشميري وأقدرهم على التعبير في كتابه الماتع الذي ألفه في شرح سنن الإمام الترمذي باسم "معارف السنن" معتمدًا على إفادات شيخه الكشميري رحمه الله موضحا موقفه يقول:

وأما في صحيح البخاري من (باب إلزاق المنكب بالمنكب) وفيه قال النعمان بن بشير : رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه ووصله أبوداود في سننه من حديث أبي القاسم الجدلي عن النعمان بن بشير وصحَّحه ابن خزيمة كما في الفتح، وأخرجه ابن حبان في صحيحه كما في العمدة فزعمه بعض الناس أنه على الحقيقة وليس الأمر كذلك، بل المراد بذلك مبالغة الراوي في تعديل الصف وسدّ الخلل كما في الفتح (2:176 ) والعمدة (2:294) وهذا يرد على الذين يدعون العمل بالسنة ويزعمون التمسك بالأحاديث في بلادنا حيث يجتهدون في إلزاق كعابهم بكعاب القائمين في الصف ويفرجون جدا بين قدميهم ما يؤدّي إلى تكلف وتصنّع ويبدلون الأوضاع الطبيعية ويشوهون الهيئة الملائمة للخشوع وأرادوا أن يسدوا الخلل والفرج بين المقتدين، فأبقوا خللا وفرجة واسعة بين قدميهم، ولم يدروا أن هذا أقبح من ذلك وقد وقعوا فيه لعدم تنبُّههم للغرض وجمودهم بظاهر الألفاظ وقبائح ذلك لا تخفى ويعلم ذلك من درس مذهب الظاهرية.

وبالجملة فالجمود بالظواهر ربما يفضي بالمرء إلى الخروج عن السنن المتوارثة. وللتفصيل موضع آخر.

والحاصل أن الشيخ رحمه الله يشير إلى الرد على هؤلاء الجامدين على الظاهر المدَّعين التمسك بالسنة.

وفي "رد المحتار" في بيان صفة الصلاة : وما روي أنهم ألصقوا الكعاب بالكعاب أريد به الجماعة أي قام كل واحد بجانب الآخر كذا في "فتاوى سمرقند ".

والحاصل: أن المراد هو التسوية والاعتدال لكيلا يتأخر أو يتقدم فالمحاذاة بين المناكب وإلزاق الكعاب كناية عن التسوية.

أما الفصل بين القدمين فالحق عدم التحديد في ذلك وإنما الأنسب بحال المصلي ما يكون أقرب إلى الخشوع وأوفق بموضوع التذلل وفي سنن النسائي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رأى رجلا يصلي قد صفَّ بين قدميه فقال :"أخطأ السنة ولو راوح بينهما كان أعجب إليَّ " والصف هنا الوصل بين القدمين والمراوحة في الأصل هو الاعتماد على أحدهما تارة وبالأخري تارة كما في حديث وفد ثقيف في سنن أبي داود : "حتي يراوح بين رجليه من طول القيام ولكن في التفريج قليلا أيضا مراوحة ولعله هو المراد بالمراوحة هنا وروى الأثرم أن ابن عمر رضي الله عنه كان لايقارب بين القدمين ولايباعد.

وبالجملة ثبت من هذا عدم التفريج الكثير بين القدمين فيكون رواية الإلزاق محمولة على ما ذكره "البدر" و"الشهاب"، وهذا الذي يعني الشيخ رحمه الله في هذا الباب، والله اعلم بالصواب ( بحذف واختصار).

فالمسألة التي أراد الإمام الكشميري إيضاحها هي أن ما يفعله البعض من التفريج بين قدميه أثناء وقوفه في الصف بشكل فاحش يؤذي الواقفين بجنبه ثم يكمش القدمين أثناء ركوعه وسجوده ويعيد الكرة أثناء وقوفه من جديد ويبقى طوال صلاته في إزعاج الواقفين على يمينه ويساره وهذا ليس من السنة في شئ وليس هو مراد الشارع من تأكيده على التراصّ وتسوية الصف وإلصاق الكعب بالكعب وإلصاق المنكب بالمنكب، بل المراد هو سد الخلل والفجوة بين المصلين. وهذا هو المفهوم الذي ظل مطبَّقا ومتوارثا وبه جرى التعامل عبر القرون وعمليا لا يمكن إلزاق المنكب بالمنكب مع التفريج الزائد والمباعدة الكثيرة بين القدمين.

يقول الشيخ المحدث محمد زكريا الكاندهلوي نقلا عن مذكرة الشيخ حسين علي من تلاميذ الإمام الكنكوهي :"اعلم أنه لا يتصور إلصاق الكعبين والمنكبين من الجانبين إلا لبعض الناس بتكلف وهيئة غير هيئة الصلاة والخضوع. فالمراد القرب والمحاذاة في الكعبين وكذا المراد في المنكبين ألا ترى إلى من لم تكن قدماه متساويتين بقدمي صاحبه، وكذا المراد من إلصاق القدم وبهذا قال الجمهور إن المراد شدة القرب لا الإلصاق الحقيقي. قال الحافظ : المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله، وهكذا قال العيني والقسطلاني.

وأبدع عندي الإمام البخاري في الترجمة بإلزاق المنكب والقدم؛ لأن حقيقة الإلصاق لا يتصور في المناكب إلا أن يكون كل الصف متساوي القامات، وكذا إلصاق القدم لايمكن إلا أن يكون كله متساوي الأقدام وهذان ممتنعان عادة فترجم بهما البخاري إشارة إلى أنه لايمكن فيهما إلا المبالغة في القرب والمحاذاة لا الإلصاق الحقيقي، ثم ذكر حديث النعمان تعليقا للإشارة إلى أن ماهو المراد في الأوَّلين هو المراد في الثالث لاتحاد سياق الروايات (راجع "لامع الدراري على جامع البخاري" مع تعليقات الكاندهلوي )

إن الامام البخاري رحمه الله وضع في صحيحه عنوان " باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف " ثم نقل تعليقا -وليس مسندًا لعدم توفر شروطه كم هو دأبه - في ترجمة الباب : وقال النعمان بن بشير: رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه "، ثم روى حديثا بسنده عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري ". يقول أنس: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه ".

يقول الحافظ ابن حجر في شرحه : "المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله ". وهذا الذي يقوله العيني والقسطلاني والكشميري وكل من له معرفة بالحديث. أما محاولة حمل تعبير الصحابيين الجليلين على المعنى الحقيقي فدونه خرط القتاد لأن أحدهما يقول "إلصاق الكعب بالكعب "، والثاني ينقل "إلزاق القدم بالقدم " فلو ألزق أحد قدمه بقدم صاحبه لا يتحقق به التصاق الكعبين بالمعنى الحقيقي الذي يريده الناقد فلابد من الرجوع إلى أجمع حديث في الموضوع كما يقول الإمام ابن حجر وهو ما رواه أبو داوود عن ابن عمر وصحَّحه ابن خزيمة والحاكم ولفظه :

إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولاتذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله ".

وهذا حديث مرفوع يخلو من تعبير "إلصاق الكعب بالكعب " ويحثّ على "المحاذاة بين المناكب وسدّ الخلل وعدم ترك الفرجات للشيطان " ويحصل ذلك بالمبالغة في الاقتراب وسد الفجوة وهو مقصود الشارع الحكيم.

إن الشيخ صلاح الأدلبي بدأ حديثه بدعاوى عريضة توهم بأنه أكثر اطلاعا على طرق الحديث وأعمق فهما ليس من الشيخ محمد أنور شاه الكشميري فحسب بل من ابن حجر والعيني أيضا الَّذين فهما نفس ما فهمه الشيخ الكشميري من أن المراد من الإلصاق هو سد الخلل وعدم ترك الفجوة بين الصف وليس التفريج الزائد عن الحد بين القدمين كما هو المشاهد من بعض الشباب المتحمسين غير واعين لمعنى الحديث ومفهومه وفي المقال تجنّ واضح وتطاول على إمام من أئمة المسلمين الذي يقول عنه العلامة الكوثري رحمه الله : " إنه لم يأت مثله بعد المحقق ابن الهمام في استثارة الأبحاث الجديدة من ثنايا الأحاديث وهذه برهة من الزمان طويلة".

وكتب العلامة المحدث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ترجمة علمية حافلة له في كتابه " تراجم ستة من فقهاء العصر" كأول شخصية عملاقة وذكر نماذج من استنباطاته تدل على براعته وتفوقه على كثير من الفقهاء والمحدثين الأعلام.

وعلى هذا النهج من النقد الذي اختاره السيد الإدلبي لا أحب أن أقول:

وكم من عائب قولاً صحيحاً

وأكتفي بما قيل :

إذا كانت النفوس كبارا=تعبت في مرادها الأجسام

إنَّ ما ذكره من " تعقيبات" أو "مؤاخذات " فيه تفخيم وتهويل وتجهيل من لم يستوعب كلامه وهو الإمام الكشميري وتتَّجه سهامه –ربما من غير أن يقصد - إلى ابن حجر والعيني والقسطلاني وشرَّاح البخاري عمومًا. والحق معهم إن شاء الله، وهو وليُّ التوفيق .

ينظر ما كتبه الأستاذ صلاح الدين الإدلبي هنا 

تعقيبات على كلام الشيخ محمد أنور الكشميري حول حديث إلصاق المنكب بالمنكب

حوار حول كلام الشيخ الكشميري عن حديث إلصاق المنكب بالمنكب هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين