كلمات بلون الثلج: غاية في الإنصاف لمن فهم

روى أبو عمر بن عبد البر، عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس، قال: (لما حج أبو جعفر المنصور دعاني فدخلت عليه، فحدثته، و سأل فأجبته. فقال: إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها (يعني الموطأ) فتنسخ نسخا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوها إلى غيرها، ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث، فإني رأيت أصل هذا العلم رواية أهل المدينة وعملهم، قال، فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به، من اختلافهم الناس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم. وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كل بلد لأنفسهم).

فقال أبو جعفر: لعمري! لو طاوعني على ذلك لأمرت به.

قال أبو عمر بعد ذكر هذه القصة: وهذا غاية في الإنصاف لمن فهم)

إن هذه الحادثة جديرة بأن يتدبرها الناس، وأجمل من هذا أن يعمل به أناس معينون! منهم على سبيل المثال:

أولئك الذين يدرسون في المعاهد العليا والجامعات، ويفرضون على طلابهم ما يؤلفونه – ولو كان هناك من سبقهم إلى هذا الأمر، وأتقنه حق الإتقان، وتحقق نفعه على مر الأيام _ ومع هذا فإنه لا يطيب لهم إلا أن يلغوا ما قد سُبقوا إليه على ما فيه من خير ونفع، ويُلزموا الطلاب بما قرروا لأن الاعتراف بالفضل لأهله (في ظنهم) منقصة؟!

وصنف آخر: أولئك الذين يكتبون في موضوع ما، قد سُبقوا إليه، فلا يضيفون شيئا جديدا، بل يعيدون ما قاله غيرهم!

فما أكثر ما كتب في هذه الأيام عن الزواج الإسلامي، وفقه المرأة والإسراء والمعراج، والخطبة العصرية، والسحر والحسد والعين وكلها تدور في مجال واحد؟! لا إبداع في غالبيتها، ولا تجديد...

إن على الذين يتعرضون للعلم والتعليم، والتأليف والتصنيف أن يذكروا أن لأهل العلم والتصنيف أخلاقا مستمدة من شرف العلم، و حسبهم بذلك شرفا! ونحسب أنه ما يزال في مجتمعاتنا كثير منهم،ولا نزكي على الله أحدا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين