كلام للاستهلاك المحلي


بقلم : د. محمود نديم نحاس
 
عندما كنت شاباً يافعا تساءلت مرة: كيف لا تتوقف وسائل الإعلام السورية عن سباب دولة من الدول الكبرى، ثم إذا بنا نشاهد على التلفاز زيارة رئيس تلك الدولة إلى سوريا سنة 1974؟ وقبيلها زيارة وزير خارجيته الذي حقق السلام لإسرائيل مع الجانب السوري؟ فجاءني جواب ربما لم أفهمه في حينها. قيل لي إن الدولة الكبرى تتفهم أن ما يُقال في الإعلام السوري هو للاستهلاك المحلي.
 
ورغم أنه بعد تلك الزيارة بدأت المساعدات تصل إلى سوريا لكن لم يتغير شيء في الإعلام! بل كان الإعلام يتبجح بأن الرئيس لن يزور تلك الدولة الكبرى حتى لا تفرض عليه إملاءاتها! مما أجبر رؤساءها على لقائه بشكل متكرر في جنيف، أي في بلد محايد! ثم زاره أحدهم في دمشق. كل هذا والدولة الكبرى تتفهم الكلام المعد للاستهلاك المحلي، والذي رفع من رصيد الزعيم عند مَن لا يعرف الحقائق فصار يُنظر إليه، وإلى ولده من بعده، على أنهما زعيما الصمود والتصدي، وزعيما المقاومة والممانعة! وليت شعري هل هناك من يشرح هذه العبارات، وكل الناس ترى سكون الجبهة السورية مع إسرائيل منذ 1974؟
 
وفي سياق كلام الاستهلاك المحلي يمكن تفسير تمثيليات غوار التي كانت تنتقد كل شيء في سوريا، حتى كان بعض الناس يظنون أنه سيتم القبض على دريد لحام بعد انتهاء المسرحية. لكن أحداث سوريا فضحت غوار وكلامه الموجّه للاستهلاك المحلي، فإذا به يقف في صف الجلاد الذي كان ينتقده ضد الضحية التي كانت مهمته أن ينفّس عنها ويُضحكها. فقد مرّ عامان على سوريا قضى فيهما عشرات الآلاف، وبُثت صور مبكية لشهدائها، بيد أن غوار لم يعد يرى شيئاً ينتقده. فهل سيتأثر لرحيل صديقه ياسين بقوش الذي رافقه في مسرحياته التي ربما كان "صح النوم" من أشهرها، أم إنه مازال نائماً ولم يسمع عن رحيل هذا النجم الشعبي الذي رحل بقذيفة "آر بي جي" غادرة انهالت على سيارته في حي العسالي في دمشق، تماماً كما رحل مائة ألف أو يزيدون من الأبرياء الطيبين الذين أسهم ياسين بقوش في إضحاكهم والتنفيس عن همومهم؟ لكنه أبكى من بقي بعدهم بسبب النهاية التراجيدية التي انتهى إليها والتي تصلح خاتمة لمسلسل مأساوي ليس فيه مجال للضحك أو للفرح! وهل يمكن للناس أن يروا إنساناً وديعاً مرحاً تقتله قذيفة ثم يفكرون في الضحك مهما تذكروا مشاهد من تمثيلياته التي وهبت البسمة لملايين العرب؟.
 
وليس متوقعاً من دريد لحام أن يتأثر لهذه النهاية المأسوية لصديق عمره، لأنه لم يتأثر حتى الآن من قصف النظام للمدنيين في جميع أنحاء سوريا، ومازال مستمراً في تصوير أعماله الفنية وكأن شيئاً لم يكن. وقد اختار منطقة القلمون الهادئة في شمال لبنان لتصوير أعماله بعيداً عن أحداث سوريا، لكن بعض الشبان اعترضوا على وجوده في منطقتهم، فرفعوا هتافات مناهضة للنظام السوري، وطلبوا منه مغادرة البلدة، وقد تدخلت قوى الأمن لحمايته وهو يغادر.
 
إن هؤلاء الشرفاء الذين طردوه لم تكن شعاراتهم للاستهلاك المحلي، وإنما تصرفوا من مواقف مبدئية بسبب مواقفه الداعمة لقتل الأبرياء. هذا القتل الذي يتم بالصواريخ البالستية التي تستهدف المناطق السكنية مما جعل منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) تعرب عن صدمتها إزاء مقتل أكثر من سبعين طفلا في يوم واحد، إلى درجة أن المنظمة الحقوقية هيومن رايتس ووتش قالت: (بمجرد أن نظن أن الأمور بلغت من السوء مداها نفاجأ بأن الحكومة السورية وجدت وسائل لتصعيد أساليب القتل).
المصدر : الاقتصادية الألكترونية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين