كلام في العقل

 

العقلُ نعمة من أعظم النِّعَم التي اختصَّ اللهُ عزَّ وجلَّ بها الإنسان دون سائر المخلوقات الحية، فقد جعله بالعقل يُدرك حقائقَ الوجود ، وبه يميز بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، وبه يهتدي إلى تحقيق المصالح واتقاء المضارِّ ، وبه يتواصل مع بني جنسه ، ولولا العقل لظل الإنسان مثل بقية السوائم التي مازالت تهيم على وجهها في القِفار ، ولم تستطع بالرغم من ملايين السنين التي مضت على خلقها أن تغير شيئاً من أحوالها ، فيما استطاع الإنسان بالرغم من حداثة تاريخه في هذا العالم أن يكون سيد الموقف بلا منازع، وأن يحقق إنجازات عظيمة فاقت حدود الخيال ، ولم يزل في كل يوم يطالعنا بالجديد والمثير والعجيب ، وما ذلك إلا بفضل هذه الهبة الإلهية العظيمة التي هي العقل ، فهو الذي أعانه على التفكير والتدبير والتسخير ، ولهذا نجد القرآن الكريم يحض مراراً وتكراراً على إعمال العقل ويعيب على الذين يعطلون عقولهم عن التفكر في آيات الله المبثوثة في الكون، حتى إنه ليشبههم بالدواب التي لم تُرزق نعمة العقل أصلاً : (( إنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عندَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الذينَ لا يَعْقِلونَ )) سورة الأنفال 22 .

وقد عرف التاريخ البشري رجالاً ونساء قد وهبهم الخالق عزَّ وجلَّ ملكات عقلية هائلة ، إلا أن هؤلاء اختلفوا في طريقة توظيف هذه الملكات ، فمنهم من سخر عقله في الخير ، فقدم للبشرية إنجازات عظيمة وخدمات علمية وفكرية جليلة ، رفعت من شأن البشرية ، ونقلتها من حال إلى حال ، ووفرت لها وسائل الراحة والسلامة والأمان ، ومكنت لها في الأرض .. ومنهم من وظَّف عقله أسوأ توظيف ، فجلب على البشرية صنوفاً لا تعد ولا تحصى من الكوارث والمآسي والنكبات ، وما تلك الحروب الطاحنة التي شهدها التاريخ البشري من مبتداه حتى يومنا الراهن ، وما تلك الاختراعات المدمرة التي تطالعنا في كل يوم وتلك الأبواق الإعلامية المنحرفة التي تنعق صباح مساء ، غير عينات قليلة من نتاج تلك العقول الشريرة التي وظفها أصحابها في أحط الأغراض وأبعدها عن مصلحة العباد والبلاد !

وهكذا نرى أن العقل نعمة عظيمة ، يمكن أن يفيض على صاحبه وعلى العالمين من عطائه الخيِّر ، ويمكن بالمقابل أن يكون العقل نقمة تجلب الدمار على صاحبه وعلى العالمين ، والإنسان يميل إلى هذا الجانب أو ذاك بمقدار ما يهتدي بمنهج الله أو يحيد عنه ، وصدق الله العظيم الذي يصور في كتابه العزيز هذه الطبيعة البشرية ، إذ يقول : (( وَنَفْسٍ ومَا سَوَّاها * فألهمَها فُجورَها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دسَّاها )) سورة الشمس 7 ـ 10

وقد كان للرسالات السماوية إجمالاً ، وللقرآن الكريم خاصة ، تأثير عظيم في تهيئة العقل البشري للتعامل مع ظروف الحياة في هذه الدنيا ، فقد تكررت دعوة الوحي في مختلف الرسالات السماوية للعقل البشري أن يتفكر في خلق السماوات والأرض ، ويتأمل ويتدبر وينظر في خلق هذا الوجود لاستكناه طبيعته ، واكتشاف السنن التي تحكمه ، ومعرفة كيفية تسخيرها على الوجه الصحيح .. وبهذا أسست الرسالات السماوية للعقل البشري قواعد منطقية علمية راسخة أعانته على القيام بواجب الخلافة وعمارة الأرض .

وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على أن العقل هو أساس التكليف الشرعي للإنسان ، لأن الإنسان بغير العقل لا يمكن أن يعي الخطاب الإلهي في التكليف وحمل الأمانة ، ولهذا نجد القرآن الكريم يتوجه بالخطاب التكليفي إلى (( .. الذين يعقلون .. أولي الألباب .. الذين يتفكرون .. الذين يتدبرون .. )) وقد بيَّن النبي  أن العقل هو أصل للتكليف فقال : (( رُفِعَ القلمُ عن ثلاثةٍ : عن النائمِ حتى يستيقظَ ، وعن الصبيِّ حتى يحتلمَ ، وعن المجنونِ حتى يَعْقِلَ ))

وبناء عليه فقد أجمع أهل العلم على أنه لا تجب عبادةٌ أو غيرها من التكاليف على الذي لا عقل له ، وأجمعوا كذلك على أن غير العاقل لا عبرة بتصرفاته المالية ، فلا يصحُّ منه بيعٌ ولا وكالةٌ ولا عقدٌ ولا ولايةٌ ، ولا اعتبار لأقواله وأفعاله أيضاً ، واستثنوا بعض الأفعال ، مثل : إحباله امرأة ، أو إتلافه مالاً ، وما شابه ذلك من الأفعال التي تترتب عليها حقوق للغير، فهذه تجب عليه أو على ولي أمره أن يؤديها عنه  .

وبما أن العقل هو أساس التكليف ، وبه يمتاز الإنسان عن المخلوقات غير العاقلة ، وبه يميز بين الحق والباطل ، والضار والنافع ، وبما أن الإنسان إذا فقد عقله انفصل عن الوجود الإنساني ، وأمسى عالة على المجتمع ، فقد أوجب الشارعُ الدِّيَةَ كاملةً في الجناية التي تُذهِبُ العقلَ ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( وفي العقلِ الديةُ ))  ، هذا إذا قطع الأطباءُ أنه لا يُرجى عودة العقل في مدة مُقَدَّرة ، فإذا عاد للمجني عليه عقلُه في المدة المقدرة فلا دية فيه، لكن يُعَزَّر الجاني بحسب درجة الجناية وملابساتها .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين