الصّحابي الشّاعر المجاهد الصّادق رضي الله عنه
كلما قرأنا سيرة واحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، عجبنا لذلك الشموخ والتألق في شخصيات ذلك الجيل الفريد. ولكن أليس ذلك ثمرة لمدرسة النبوّة؟!.
ومن الاختصار المخلّ أن نَقصُرَ فضائله في أنه أحد شعراء الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومعه حسّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة. لقد كان مجاهداً بسيفه كما كان مجاهداً بكلمته، فهكذا تقوم الدعوات العظيمات.
إنه كعب بن مالك الأنصاري الخزرجي السلمي، وُلد سنة 26 ق. ه، وتوفي سنة 51هـ في خلافة معاوية. كان من أوائل الأنصار إسلاماً، فهو من الذين شهدوا بيعة العقبة الثانية. وهو يروي خبر تلك البيعة: "خرجنا في حجّاج قومنا من المشركين، وقد صلّينا وفَقِهنا... ثم خرجنا إلى الحج، وواعَدْنا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم العقبةَ من أوسطِ أيام التشريق...". كما في سيرة ابن هشام.
ولما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بين كعب وبين طلحة بن عبيد الله.
ولم يحضر كعبٌ غزوة بدر، ولا غضاضة في ذلك، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم ندب أصحابه للخروج لاعتراض قافلة أبي سفيان، فلم يكن هناك ما يقتضي خروج جميع المسلمين، وقد خرج زهاء ثلاثمئة صحابي، وهو عدد يزيد على الحاجة لاعتراض القافلة، ثم إن الله تعالى هيّأ لهؤلاء الصحابة بأن يلاقوا جيشاً من المشركين يقارب الألف مقاتل، فكان يوم الفرقان، وكان لأهله من المسلمين فضيلة عظيمة.
لكن كعباً حضر الغزوات كلها بعدئذ، وكان له في غزوة أحد بلاء كبير. يقول – رضي الله عنه-: "لما انكشفنا يوم أُحد كنتُ أول مَن عَرَفَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبشّرتُ به المؤمنين". ودعا صلّى الله عليه وسلّم كعباً بلأمته [أي درعه]، وكانت صفراء، فلبسها كعب، وقاتل يومئذ قتالاً شديداً، حتى جُرح سبعة عشر جرحاً.
لكن الموقف الذي اشتُهر به كعب، رضي الله عنه، هو توبة الله تعالى عليه بعد غزوة تبوك، حيث كان قد بقي في المدينة ولم يخرج في الغزو، ومعظم الذين لم يخرجوا جاؤوا بأعذار كاذبة إلا كعباً وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع. وكعب يروي قصة ذلك الموقف – والحديث رواه البخاري ومسلم- وفيه ومضات باهرات. يقول: "وكان من خبري حين تخلّفت... أني لم أكن قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفتُ عنه". إنه غاية الصدق.
وحين جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال له: ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعتَ ظهرك؟. [ألم تكن قد اشتريت مركباً؟]. قال: "يا رسول الله. والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أني سأخرج من سَخطِهِ بعذر. قد أُعطيتُ جَدَلاً. ولكنني والله لقد علمتُ لئن حدّثتُك اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به عني، ليُوشِكَنّ الله أن يُسخطَك عليّ. وإن حدّثتُك حديث صدقٍ تجد عليّ فيه إني لأرجو عقبى الله عز وجل. والله ما كان لي عذر".
وإنه الصدق في الموقف الحرج، وإنها الشجاعة الإيمانية، وإنها التربية النبوية. فهكذا يكون المؤمن الحق: يؤمن بأن الكذب لإرضاء الناس باب لغضب رب الناس، وأن الصدق مع الله هو النجاة عنده سبحانه، وإن جَلَبَ له عقوبة في الدنيا، وما يكون لمؤمن أن يبيع رضوان الله بأي ثمن كان.
وعندما لامَهُ بعضهم فقالوا له: والله ما علمناك أذنبتَ ذنباً قبل هذا. لقد عَجَزْتَ في أن لا تكون اعتذرت بما اعتذر إليه المخلّفون... لم يتراجع عن صِدقه.
وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بمقاطعته (ومعه هلال ومُرارة). والتزم المجتمع كاملاً بهذه المقاطعة، ومضت أربعون ليلة على ذلك، ثم حدثت فتنة عظيمة، ثبتَ أمامها الصحابي العظيم. وهو يروي لنا ذلك: فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نَبَطيّ من نَبَط أهل الشام، ممن قدِمَ بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: مَن يدلّ على كعب بن مالك؟ فطفق الناسُ يُشيرون له إليّ، حتى جاءني فدفعَ إليّ كتاباً من ملك غسان: ... قد بَلَغَنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضْيَعة. فالحَقْ بنا نواسِك! [يعرض عليه اللجوء السياسي، في وقت قد ضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رَحُبت]. لكن الإيمان الذي عَمَرَ قلبه أبى عليه الوقوع في الفتنة. قال: وهذه أيضاً من البلاء. فتيمّمْتُ بها التنور فسجرتها [توجّه إلى تنّور فأحرقها].
وحفظ كعب الدرس: الصدق خُلُق المسلم، وهو طريق النجاة في دنياه وأُخراه. فبعد مضي خمسين ليلة على المقاطعة ونزول توبة الله عليه، يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، إن الله إنما نجّاني بالصّدق، وإن من توبتي أن لا أُحدّث إلا صِدقاً ما بقيتُ.
ويحدّث بعدئذ: والله ما تعمّدتُ كذبةً منذ قلتُ ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي.
ويذكر اللحظة السعيدة حين تلقّى خبر توبته: "وانطلقتُ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيتلقّاني الناس فوجاً فوجاً يهنّئونني بالتوبة... فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنّأني". فكان كعب لا ينساها لطلحة!.
لقد ارتقتْ قيم المجتمع النبوي حتى كانت التوبة على أحد الصحابة فرصة عظيمة تستحق أن ينهض أفراد المجتمع فوجاً فوجاً يُهنّئون التائب. وكان خُلق الوفاء يملأ صدر كعب، فهو لا ينسى موقف طلحة الذي هرول إليه وصافحه وهنّأه!.
وأخيراً يتذكّر كعبٌ لقاءً في أوائل ما قدِم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، حيث قال لعمّه العباس، وقد دخل عليه كعب والبراء بن معرور: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟. قال: نعم. هذا البراء بن معرور سيّد قومه، وهذا كعب بن مالك!. قال كعب: فوالله ما أنسى قولَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الشاعر؟. قال: نعم. [والخبر في مسند الإمام أحمد].
وهكذا كان كعب شاعراً، وكان مجاهداً، وكان صادقاً، وكان وفيّاً... رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول