كشك.... وما أدراك ما كشك!!

 

 

عبد الحميد كشك... الشيخ كشك.... كشك...... أسد المنابر... الأسد الجسور ، الصوت الجريء ، الخطيب المفوه ، الإمام الصابر ، المبصر الأعمى ، الفقير الغني...

الأعمى الذي روع السجانين وهو مسجون ، وأخاف المسئولين وهو محبوس ، وأقلق العابثين بالأمة وروحها وهو وحيد....

 إنه صاحب : " هنا مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم " ، وصاحب : " يا حماة الإسلام ، وحراس العقيدة " ، وصاحب " سأتكلم بما تيسر من التقدير وتقدر من التيسير، وأمركز العناصر الأساسية ، وأعنصر المراكز الأصلية "...

 إنه وصاحب : " صل على الحبيب قلبك يطيب ، إنه صاحب الانتقادات اللاذعة .. فمن هو يا ترى هذا الرجل ؟ وكيف بدأ حياته ؟ ، وما هي رحلته الدعوية ؟ كيف كان ابتلاؤه ؟ ، وكيف كان صبره ؟ ، وماذا قالوا عنه ؟ وأخيرًا فكيف كان مماته ؟ 

إنه الشيخ عبد الحميد كشك ...رحمه الله. 

ميلاده ونشأته :

ولد الشيخ رحمه الله في 10 مارس 1933م في بلدة شبراخيت إحدى مراكز محافظة البحيرة بجمهورية مصر العربية لأبوين ليسا من ذوي البسطـة في المال ،وكان ترتيبه الثالث بين ستة من الأخوة .

ولد ـ عليه رحمه الله ـ سليمـًا معافى من الأمراض ، ولما بلغ السادسة من عمره أصيب برمد صديدي في عينيه ، ولضيق الحال ذهب إلى حلاق القرية والذي كان يقوم بدور الطبيب ، فضاعت عينه اليسرى ، وبقيت عينه اليمنى تشكو إلى الله صنيع الحلاق ، والتحق عليه رحمة الله بجمعية تحفيظ القرآن في القرية ، فأتم حفظ القرآن ، ثم التحق بمعهد الإسكندرية الديني ، ولما بلغ الشيخ السادسة عشرة من عمره أصيبت عينه اليمنى كمدًا على أختها ، وواصل العلاج مع طبيب نصراني ، وبعد رحلة مريرة ، حافلة بالمآسي فقد الشيخ عينه الثانية وهو في السابعة عشرة من عمره ، وبعد سنتين كاملتين انقطع فيهما الشيخ عن الدراسة بالأزهر ، وفي عام 1952م وافت المنية والد الشيخ ، ولما لم يكن للشيخ ولأخوته بعد وفاة أبيهم شيء في القرية فقد عزم الجميع على الرحيل ، واقترح أخوه الأكبر عليه أن يكمل التعليم في القاهرة ، على أن يتم تحويل أوراقه من معهد الإسكندرية إلى معهد القاهرة الأزهري ، وظل الشيخ في المعهد الأزهري بالقاهرة إلى أن تخرج من القسم الثانوي ، وكان ترتيبه الأول بنسبة 99% .

التحق الشيخ بكلية أصول الدين ، وبها أتم دراسته ، وكان ترتيبه الأول ، ثم التحق بقسم تخصص التدريس ، وكان أيضـًا من الأوائل ، وتم تكريمه على مستوى الجمهورية ،وتم تعيين الشيخ بوزارة الأوقاف إمامـًا وخطيبـًا ، فكان نعم الخطيب ، ونعم الإمام ، ونعم الداعية . 

الشيخ والمنبر : 

الحق أن الشيخ ـ عليه رحمة الله ـ استطاع بأسلوبه الخطابي الباهر أن يحفر اسمه في عالم الخطباء ، بل إن لم نقل إنه فارس الحلبة وأسدها ، نكون قد أجحفناه حقه ، وبخسناه قدره ، لقد أعطي الشيخ ـ رحمه الله ـ ملكة تصويرية رائعة ، وقدرة بلاغية فائقة ، ودقة في التعبير لا تجارى ، فهو يجمع بين الترغيب والترهيب ، والتخويف والتشويق ، والبطء والإسراع ، وخفض الصوت ورفعه ، والضحك والبكاء ، إنه يخاطب العقل كما يخاطب الوجدان ، ويحرك العاطفة كما يحرك الشعور والإحساس ، يأسر القلوب إذا خطب ، ويلهب المشاعر إذا تحدث ، ويجري الدموع إذا خوّف وأنذر ، ويضحك الأسارير إذا علق وسخر ، يسمعه الصغير كما يسمعه الكبير ، وينصت له الأمي الجاهل كما ينصت له العالم النحرير ، تعلق بشرائطه الخطباء والوعاظ ، كما تعلق بها الفلاحون البسطاء ، اقتناها طلاب العلم الشرعي ، كما اقتناها سائقو " التاكسيات " والميكروباصات" .

والحق أقول : إن الخطباء كلهم عيال على الشيخ كشك ، فقد حباه الله بملكة تصويرية رائعة . استمع إليه وهو يتحدث عن غزوة من الغزوات ، أو معركة من المعارك ، فيعرضها كأنها تدور أمام عينيه ـ وهو الأعمى الضرير ـ أو كأنه حضرها وعايش مواقفها وصاحب أبطالها ، ولكن يا ترى كيف بدأ الشيخ رحلته الخطابية؟

بدأ الشيخ رحلته الخطابية وهو ابن السادسة عشرة ، وفي أحد أيام أجازته الصيفية دار حديث بينه وبين زملائه في المعهد الأزهري ، حديث عمن يستطيع أن يحدث الناس ويخطب فيهم في أحد مساجد القرية الثلاثة ، فكان أول حديث له هو شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم : [ سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه ، ](البخاري) ، ثم أسند إليه عمَّه عبد الفتاح كشك ، وكان مأذون القرية أن يخطب خطبة الجمعة بدلاً منه ، وكانت عن محاربة الفساد الإداري في القرية ، وأجلبت عليه الخطبة متاعب ، وهاجت عليه قلوب الحاقدين ، وكادت المآسي أن تبدأ معه لولا أن انتهت العطلة الصيفية وانتقل إلى الدارسة ،ويبدو أن الشييخ من نشأته وهويجيد النقد ويستخدم الأسلوب اللاذع. ولما كان الشيخ في السنة الثالثة من القسم الإعدادي من التعليم الأزهري ، وكان حينئذ في التاسعة عشرة من عمره تقدم إلى الجمعية الشرعية ليكون خطيبـًا بأحد مساجدها ، وتم اختباره ، وكان موضوع خطبته " دعوة المسلمين إلى وحدة الصف والهدف " ، وكان تعليق الشيخ أحمد حلوة مفتي الجمعية الشرعية حين سمعه في الاختبار أن قال لسكرتير الجمعية : " اعطه أكبر المساجد ليقوم فيه بخطبة الجمعة ، وكن مطمئنـًا !! واستمر الشيخ بمساجد الجمعية الشرعية ثماني سنوات تنقل خلالها بين مساجد القاهرة الكبرى وغيرها من المحافظات .

ولما أنهى الشيخ تعليمه بكلية أصول الدين تم تعيينه في مسجد الطيبي بالقرب من مسجد السيدة زينب بالقاهرة ، ثم انتقل رحمه الله إلى مسجد الملك والكائن في منطقة حدائق القبة بالقاهرة في شهر مارس 1964م ، وظل فيه إلى أن تم إيقافه عن الخطابة بعد أحداث سبتمبر 1981م . 

لباقـة الشيخ وحسن تصرفه : 

ومما كان يمتاز به الشيخ ـ رحمه الله ـ هو إدراك الموقف الذي يكون فيه ، مع حسن تصرف لما يفاجئه من الأمور ، وهكذا يكون الداعية ، فقد يتعرض لمستمع عجول ، أو جليس أحمق ، أو قرين حسود ، فيريد به الشر بين يدي الناس ، وقد حدث يومـًا ـ وكان الشيخ في السنة الرابعة من كلية أصول الدين ـ أن اعتذر الأستاذ عن عدم إلقاء المحاضرة ، وقال اخترت لكم عبد الحميد كشك لكي يقوم بإلقاء درس التفسير عليكم ، وكانت الآية هي قوله تعالى : ( وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحمـًا طريـًا )(النحل/14) ، وقام الشيخ فتكلم في الآية ، وبين ما يتعلق بسياقها وسابقها ولاحقها ووجوه البلاغة ، والمباحث النحوية ، وسبب ختم الآية بقوله : ( ولعلكم تشكرون ) ولما حضر الأستاذ في المحاضرة التالية سأل الطلاب عن شرح الشيخ كشك ، فقام أحدهم قائلاً : " إن التفسير الذي سمعناه في هذه الآية لم نسمع مثله قط" ثم أردف قائلاً : " وأعترف أنه بتفسيره هذا فاق كثيرًا من الأساتذة " فأثارت الكلمة حفيظة الأستاذ فأرغى وأزبد وهاج وماج ، لكن الشيخ بحس تصرفه طلب الكلمة من الأستاذ ، ثم قال : " إن التلميذ امتداد لظل شيخه وهو ثمرة من ثمار علمه ، وإن مثل التلميذ مع شيخه كما قال القائل : 

كالبحر يمطره السحاب وماله فضل عليه لأنـه من مـائه 

وحدث يومـًا أن كان الشيخ صاعدًا منبره وفوجئ بمنشور من وزارة الأوقاف وفيه تنبيه على أن تكون الخطبة عن " دودة القطن " وكان الشيخ مازال جديدًا في عمله بوزارة الأوقاف .

وكانت الخطبة يكتب عنها تقرير يتعلق بمدى صلاحيته للخطابة ، ولكن المنطقة التي يقوم بالخطابة فيها لا تمت للزراعة بحال ، فهي منطقة السيدة زينب ، ورواد المسجد ما بين تاجر وعامل ومثقف ، فطلب الشيخ من ربه التوفيق واختار سورة النحل ليتحدث عنها إجمالاً وهي تعتبر مؤسسة اقتصادية اشتملت على مصادر الانتاج في شتى أنواع الثروات ، ثم عرج الشيخ في النهاية إلى الحديث عن الأرض وخيراتها ، ومنها القطن ، ثم أخيرًا تحدث عن دودته كما أرادت وزارة الأوقاف ، ثم يعقب الشيخ فيقول ، وهكذا أرادوا الخطبة موجَهة " بفتح الجيم " وأرادها الله موجهـة " بكسر الجيم " . 

حسن صلة الشيخ بربه : 

وكان الشيخ ـ رحمه الله ـ حسن الصلة بالله منذ صغره ، وهكذا ينبغي أن يكون الداعية ، حسن الصلة بربه ، دائم الذكر له ، كثير التفكر . وحدث مرة أن كان الشيخ يخطب فدخلت جنازة المسجد فتوقف فجاءة ثم قال : افسحوا للجنازة ، وما أخبره أحد ، بل رأى ببصيرته ، وإن كان أعمى البصر وأدرك بقلبه وإن كان فاقد النظر . ولما كان في السنة النهائية ، وفي ليلة امتحان العقيدة ، وكان المقرر على الشيخ كتابـًا يسمى " العقائد النسفية " وكان الشيخ مهتمـًا بهذه المادة ، فقد شغله صعوبة عرضها ، وعدم وضوحها ، كما كان يشغله الكاتب الذي يكتب له وهل سيكتب حسب القواعد الإملائية أم لا ؟ ثم نام الشيخ فرأى رؤيا مفادها كأنه في لجنة الامتحان وأمامه سبورة ، وقد كتب عليها أجب عن ثلاثة أسئلة ، وكتب عليها أربعة أسئلة ، وقرأ الشيخ الأسئلة وكأنه واقع في يقظة ، وما تداخلت الأسئلة وما التبس بعضها ببعض ، وما أن وقعت يد الشيخ على ورقة الأسئلة وقرأ قارئه عليه إلا وكانت الأسئلة كما رآها في منامه . 

الشيخ ورسالة المسجد :

لم يكن الشيخ في مسجده الذي كان فيه يقوم بعمله على أنه موظف ، وإنما كان يعتبر أن عمله رسالة قبل أن يكون وظيفة ، وهو عمل دعوي قبل أن يكون مورد رزق يتكسب منه ، ومن ثم فقد استطاع الشيخ أن يجعل من مسجده دارًا للعبادة ، ومدرسة للتعليم ، ومعهدًا للتربية ، ومأوى للمحتاج والمسكين ، وسوطـًا لتأديب الخارجين ، وإرهاب المتطاولين ، فكان مسجده مسجدًا حقـًا ، أشبه بخلية نحل يقوم كل فرد فيها بعمله ، وهو القائد الأعلى لهذه الخلية ، والقائم على أعمالها ، تراه مع الصغار أبـًا ، ومع الكبار ابنـًا وأخـًا ، ومع الأرملة أخـًا وافيـا ، ومع الجاهل معلمـًا مربيـًا ، ومع المذنب طبيبـًا حاذقـًا . قال عنه جيلز كيبل رجل المخابرات الفرنسي : " نجح كشك في إعادة رسالة المسجد في الإسلام ؛ حيث تحول مسجده إلى خلية نحل تكتظ بحشود المصلين " 

محنة الشيخ : 

لما كان الشيخ ـ رحمه الله ـ من مواليد 1933 ، فقد عايش ثورة 1952م  يومـًا بيوم ، وساعة بساعة ، وكان يأمل فيها خيرًا كما كان يأمل غيره ، لكن العسكر خيبوا نظرة الناس فيهم ، وجاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ، ولما كان الشيخ لا يرى منكرًا ببصيرته فيسكت عليه ، فكان لزامـًا عليه أن يدفع الضريبة لإقامة هذه الفريضة ، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذاق الشيخ ما ذاقه أبناء الحركة الإسلامية في أرض الكنانة، وفي عام 1965م رجت الأرض رجـًا وهبت رياح اشتدت كأنها رماد في يوم عاصف ، تحاول اقتلاع " شجرة الدعوة الإسلامية " وبالتحديد في شهر أغسطس فوجئ الشيخ بطرقات عنيفة على بابه وفتح الباب ، وكانت جريمة لا تغتفر أن يضبط أي كتاب لشهيد الإسلام " سيد قطب " خاصة كتاب " معالم في الطريق " ، وكان قدر الله أن هذا الكتاب هو الذي بين يدي الشيخ يقرأ له فيه ، ولم ينتبه العسكر لهذا ، وأمروا الشيخ بارتداء ملابسه ، وانطلق بالشيخ إلى حيث لا يعلم ولا يدري ، وبعد مدة استغرقت أكثر من نصف ساعة ، سئل فيها الشيخ عن موضوعات شتى ، منها : الجبر والاختيار والتخيير والتسيير ، نظام الحكم ، وعرضت عليه بعض الأسماء ، ثم أمر بالإفراج عنه ، وكفى الله المؤمنين القتال .

وفي سنة 1966م كانت المحنة العظمى للشيخ ، فقد جاءت الدنيا لتركع بين يديه شريطة أن يبيع دينه ، ويحل ما حرم الله ، ولكن الشيخ أدركه الله بفضله ، فقدّم دنياه محافظـًا على دينه ، ورضي بالباقية وباع الفانية ، وكانت المحنة حين أتى إلى الشيخ مندوبان من إحدى السلطات ، وقالا له : إن المشير " عبد الحكيم عامر " يعلم أن لك شعبية ومحبة في قلوب الناس ، وإنه يطلب منك أن تحل دم " سيد قطب " ومن معه ، ونريد أن نسمع هذه الفتوى في الخطبة القادمة ، ثم سألاه : بأي شيء نرد على سيادة المشير ؟ فقال الشيخ : ربنا يهيئ ما فيه الخير ،وهيئ الله الخير ،ولم يتحدث الشيخ بما أرادوا .

وفي شهر إبريل سنة 1966م تم اقتحام منزل الشيخ ، وقيد الشيخ إلى السجن الحربي لمدة قيل إنها ستستمر خمس دقائق ، فاستمرت أيامـًا وشهورًا ، تنقل فيها الشيخ بغير إرادته بين السجن الحربي وسجن طرة ، وسجن أبي زعبل ، واستمر سجن الشيخ حتى 30 مارس 1968م ليرى ابنه الصغير وقد ولد وأبوه بعيدًا ، وقد صار عمره قريبـًا من عام ونصف العام .

وبعد أحداث ما سمي بـ " أحداث الزاوية الحمراء " تم القبض على الشيخ ـ رحمه الله ـ في يوم الأربعاء سبتمبر 1981م ، وتم ترحيل الشيخ إلى سجن " طره " ، وبعد مقتل " السادات " في 6 أكتوبر 1981م تم ترحيل الشيخ إلى سجن " أبي زعبل " ، ثم أفرج عن الشيخ في 27 يناير 1982م ولم يصرح له بعدها بالعودة إلى مسجده ومنبره ، وظل كذلك إلى أن توفاه الله تعالى . 

عفـة الشيخ :

لم تر الساحة الإسلامية رجلاً عفيفـًا كهذا الرجل ، نحسبه كذلك ، عرضت عليه الدنيا بزخارفها فأبى ورفض ، ولو أراد الرجل أن يجمع المال من حله لكان ذا مال وفير ، لقد اغتنى الكثيرون من وراء أشرطته ، وطلب البعض منه أن يكون له نصيب من بيع أشرطته ، فرفض وقال : " إنما آخذ من الوزارة راتبـًا على عملي وليس لي في هذه الأشرطة حق أو نصيب " .

كان دائمـًا يتمثل بقول القائل : نزح بحرين بغربالين ، وحفر بئرين بإبرتين ، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا كأبيضين ، وكنس أرض الحجاز في يوم شديد الهواء بريشتين ، خير لي من أن أقف على باب اللئيم يضيع فيه ماء عيني .

ولما كان يوم الإفراج الأول عنه في 30 مارس 1968م قابل الشيخ وزير الداخلية المصري كإتمام للإفراج فوضع الوزير في يده عشرين جنيهـًا قائلاً : خذ هذه النقود البسيطة واستعن بها في نفقة أولادك ، فسأله الشيخ : وبأي وجه أستحقها ؟! ثم رفض أخذها .

ولقد عُرض عليه السفر إلى ليبيا وكان ذلك من وزارة الأوقاف المصرية حتى قيل له : لم ترفض ، وإن راتبك سيتضاعف أكثر من عشر مرات؟‍‍‍ فأصر الشيخ على رفضه . يقول عنه عبد السلام البسيوني : " ضاقت به الظروف جدًا في بعض الفترات حتى إنه ـ كما سمعت من صديقه الدكتور رشدي إبراهيم رحمه الله ـ لم يكن في بيته إلا التمر والماء .. يعيش عليهما نهارَه وليله ـ وهو المريض بالسكر ـ مع أن كثيرين عرضوا عليه المساعدة ، ومع أن سبلاً كثيرة كانت مفتّحة أمامه للكسب : العمل في الخارج ، والتسجيلات الإذاعية والتليفزيونية ، ومع ذلك كان يأبى بشدة .. وقد جربت ذلك بنفسي .. ففي نهاية عام 1989م كنت في القاهرة ، وحاولت الاستفادة من وجودي هنالك بمقابلة بعض العلماء الكبار والتسجيل معهم للتليفزيون حول بعض القضايا التي طرحت بعد ذلك في برنامج " الإسلام وقضايا العصر " الذي ضم كبار علماء العالم الإسلامي ، وفاز بالجائزة الذهبية في المهرجان الأول للتليفزيون الخليجي .. وطلبت الشيخ هاتفيـًا أرجوه المشاركة في البرنامج بجانب الشيوخ الأجلاء : الشعراوي ، والغزالي ، وصلاح أبو إسماعيل ـ رحمهم الله جميعـًا رحمة واسعة ـ فرد عليَّ بأدب شديد ـ وبحزم شديد أيضـًا ـ بأنه لا يتعامل مع أي تليفزيون على الإطلاق ، وحاولت ترغيبه وتعطيف قلبه بشتى الطرق ، لكنه صمم على الرفض، وعلمي أنه ظل يتهرب من الكاميرات حتى مات ، في وقت يلهث الكثيرون للجلوس خمس دقائق أمام الأضواء لاستعراض كرافتة جديدة ، أو ساعة يد مهداة " . 

أسباب نجاحه وشهرته : 

قل أن تجد داعية مشهورًا ، ذاع صيته بين الناس ، أو علت كلمته بين الخلق ، إلا وقد استفاد من الشيخ كشك ـ رحمه الله ـ بقصد أو بغير قصد ـ ، والحق لئن كان الناس عيالاً في الفقه على أبي حنيفة كما قال الشافعي ، فإن الخطباء عيال في الخطابة على كشك ـ رحمه الله ـ ، لقد تعلق العرب بخطبه وشرائطه ، كما تعلق بذلك العجم ، وكم من أناس هدى الله قلوبهم وفتح بصيرتهم ، وكان الشيخ ـ رحمه الله ـ صاحب فضل بعد الله في ذلك ، ويرجع ذلك إلى عدة أمور منها :

1 - الإخلاص العميق الذي كان يظهر في كلام الشيخ حديثـًا وكتابة- نحسبه كذلك والله حسيبه_ .

2 - الثبات الذي لا يتزعزع ، والصبر الذي لا يلين ، والشجاعة التي لا نظير لها .

3 - كلماته الساحرة وعباراته الطريفة والتي كانت تحمل خفة ظله ، وحلاوة فكاهته ولطف دعابته ولواذع سخريته ، وإنك لتسمع خطبته مرات ومرات فتضحك ، كأنك ولأول مرة تسمعها ، فتتفتح أساريرك وتبتسم شفتاك ، وتضحك من داخلك .

4 - عدم تقليده لأحد من الناس ، بل كان مدرس هو والحق يقال: ظاهرة قد لا تتكر.

5 - استغلال المواهب التي حباه الله بها من حدة الذكاء ، وسرعة الحفظ ، وطلاقة اللسان ، وحب الآخرين ، وطلاقة الوجه .

6 - بُعده عن زخارف الدنيا وشهواتها .

7 - اعتقاده أن عمله كخطيب إنما هو رسالة وليس وظيفة .

8 - اجتهاده في طلب العلم وجده في ذلك .

9 - حبه للحركة الإسلامية بكل طوائفها ، ومحاولة التقريب بين الصف .

10 - استشهاده بروائع الشعر وظريفه ، وجميل القصص وأطرفه ، وبديع الأمثال وأصدقها .

ما أُخذ على الشيخ : 

لما كانت العصمة ليست لأحد بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فإن الشيخ ـ رحمه الله ـ لم يكن معصومـًا من الخطأ ، وإنما كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ، ومما أُخذ على الشيخ :

1 - إيراده للأحاديث الضعيفة ،وقد يقع في الموضوعة أحيانـًا .

2 - تشهيره بالأشخاص بأعيانهم وأسمائهم على المنبر ، وقد كان يغنيه التلميح عن التصريح ، كما أن الإشارة تغني عن العبارة .

وفاته : 

في الخامس والعشرين من رجب 1417هـ الموافق 6 ديسمبر 1996م انتقل الشيخ كشك ـ رحمه الله ـ إلى جوار ربه بعد أن وافته المنية ساجدًا لله رب العالمين فهنيئـًا له ميتته ، كتبه الله عنده في سجل الصالحين ،وجمعنا الله به مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في الفردوس الأعلى يوم القيامة . 

المراجـع : 

1 - قصة أيامي مذاكرات الشيخ كشك : " عبد الحميد كشك " ط : المختار الإسلامي .

2 - دعاة ومشاهير عرفتهم : " الشيخ عبد السلام البسيوني " تحت الطبع .

3 - مجلة اللواء الإسلامي بمصر : 15 يناير 1997م .

4 - مجلة المجتمع : العدد 1230 ـ 1231 .

5 - مجلة اللواء الإسلامي بمصر : 26 ديسمبر 1996 .