كراهة تحصيل العلم من الكتب

كراهة تحصيل العلم من الكتب

 

زهير محمود حموي

يعتبر الكتاب أحد أهم الإنجازات البشرية، بعد الكتابة، وقد قيل في مدحه وأهميته الكثير من النثر والشعر، ومن ذلك ما ذكره ابن عبد ربه في «العقد الفريد»: أنّ ملك الهند قال لولْده، وكانوا أربعين ولداً: «يا بني أكثِروا من النظر في الكتب، وازدادوا في كل يوم حرفاً؛ فإن ثلاثةً لا يَستوحشون في غربة: الفقيه العالِم، والبطل الشجاع، والحُلو اللسان الكثير مخارج الرّأي».

وبالرغم من أهمية الكتاب، إلا أنّه لا يمكن الاعتماد عليه مصدراً وحيداً لتحصيل المعرفة، بل لا بد من صحبة الأساتذة والشيوخ، لذلك قيل: «لا تأخذ العلم من صحفي، ولا القرآن من مصحفي» [أوردها الخطيب البغدادي، في كتاب الفقيه والمتفقه (1/453)، بلفظ: «لا يفتي الناس صحفي، ولا يقرئهم مُصحفي»].

والمقصود بالصُّحفي: من يأخذ علمه من الكتب دون شيخ يُعلمه، وبالمصحفي: من يُعلم الناس القرآن والتجويد والقراءات، دون أن يتلقاها من أفواه القرّاء.

ويلاحظ أنّ بعض الناس قد يتّخذ من هذه المقولة مدخلاً للوصاية العلمية والعقلية على اجتهادات وآراء الآخرين، ولربما اتخذها البعض الآخر سلاحاً في وجه الباحثين والعلماء، باتهامهم بالخروج عن المنهج العلمي السوي، ومخالفة الأشياخ، دون أن يدرك أنّ هذه المقولة جاءت في أحوال معيّنة، تتبعتُها، فوجدت بعضها جاء متعلقاً بتلقي القرآن الكريم، وبعضها جاء متعلقاً بمنهجية تلقي الطلبة المبتدئين، وبعضها جاء متعلقاً بالتحذير من افتئات الجهلة والمغرورين، وبعضها جاء متعلقاً بالتحذير من أصحاب الأهواء والمدلّسين، وبعضها جاء متعلقاً بالتحذير من اضطراب المنهج عند بعض الدارسين، وعليه: فلا يجوز الخلط بين هذه الأحوال، وإيراد هذه المقولة على إطلاقها، أو في غير محلها، وسأفصّل بإذن الله ما أجملته.

 

تلقي القرآن الكريم:

إنّ موضوع تلقي القرآن الكريم عن الشيوخ بالسند (القراءات)، له خصوصية، وهو أمر في غاية الأهمية، ولهذا فلا يؤخذ القرآن الكريم ممن حفظ القرآن، وقرأه من المصحف، ولم يقرأه على شيخ، لأنّه قد يفوته بعض الأشياء إما في الضبط، أو في آداب التلاوة، أو في التجويد، أو في الوقف، أو نحو ذلك مما يتميز به القارئ عن غيره.

 

تلقي العلوم التجريبية:

وقد يكون سبب النهي عن أخذ العلم من الكتب هو أن بعض العلوم تجريبية، يحتاج تحصيلها لتلقيها من أربابها وشيوخها الممارسين، مثل (الطب)، فقد انتقد ابن أبي هريرة، الحسن بن الحسين، إمام الشافعية في العراق (ت: ٣٤٥ ه)، من تعلّم الطبّ وغيره من العلوم من غير أستاذ، فقال: «من تأدَّب من الكِتاب صَحّف الكلام، ومن تفقّه من الكتاب غيّر الأحكام، ومن تنجّم من الكتاب أخطأ الأيام، ومن تطبَّبَ من الكتاب قتل الأنام»[ تحسين القبيح وتقبيح الحسن: أبو منصور الثعالبي، دار الأرقم، بيروت (ص: 50)].

 

تلقّي الطالب المبتدئ:

يحتاج الطالب المبتدئ في بداية أمره إلى أستاذ ثقة يدلّه على أسس ومنهجيات التحصيل العلمي، ومنها طريقة قراءة وفهم النصوص، فقد يوجد في الكتاب أشياء تصدُّ الطالب عن العلم، وهي معدومة عند المعلِّم، وهي التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ، والغلط بزوغان البصر، وقلة الخبرة بالإعراب.

وكان الإمام الأوزاعي، عبدالرحمن بن عمرو (ت: 157ه)، يقول: «كان هذا العلم كريماً يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب، دخل فيه غير أهله».

وقد علّق الذهبي رحمه الله على هذه الكلمة، فقال: «ولا ريب أنّ الأخذ من الصُّحُف وبالإجازة، يقع فيه خلل، ولا سيما في ذلك العصر، حيث لم يكن بعد نقط ولا شكل، فتتصحّف الكلمة بما يحيل المعنى، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال، وكذلك التحديث من الحفظ يقع فيه الوهم، بخلاف الرواية من كتاب محرر»[ سير أعلام النبلاء: للذهبي (٧/١١٤)] .

 

التلقّي من مصادر غير الموثوقة.

وقد يكون التحذير من الأخذ من الكتب منشؤه عدم الثقة بالمصادر، لذلك فقد عاب الجاحظ (ت: 255ه)، على الذين يتلقّفون الأكاذيب من كتب الورّاقين، دون تمحيصها والتثبت منها، فقال: «وما هو إلاّ أن ولّد (أي اخترع) أبو مخنف حديثاً، أو الشَّرقي بن القُطامي، أو الكلبي، أو ابن الكلبي، أو لقيط المُحاربي، أو شوكر، أو عطاءٌ الملط، أو ابن دأب، أو أبو الحسن المدائني، ثم صوَّره في كتاب، وألقاه في الورَّاقين، إلاّ رواه من لا يحصِّل ولا يثبِّت ولا يتوقّف... ثم قال: من أراد الأخبار فليأخذها عن مثل قتادة، وأبي عمرو بن العلاء وابن جُعْدبة، ويونس بن حبيب، وأبي عُبيدة... فإنَّ هؤلاء وأشباههم مأمونون، وأصحاب توقٍّ وخوْف من الزوائد، وصوْن لما في أيديهم، وإشفاق على عدالتهم» رسائل الجاحظ (2/ 226)، مكتبة الخانجي، القاهرة.

 

اضطراب المنهج:

وقد يكون التحذير من الأخذ من الكتب منشؤه فساد منهج الباحث، وعدم صحة قريحته، أو عدم توفّر الملكة العلمية لديه، لذلك فقد غلّط الإمام الذهبي رحمه الله الفيلسوف المصريّ، أبي الحسن، عليّ بن رضوان (ت: 454 ه)، في زعمه أنّ تحصيل صناعة الطب والفلسفة من الكتب أوفق من تحصيلها من المعلّمين، فقال رحمه الله: «وهذا - أي الزعم- غلط»، ثم فسّر سبب ذلك؛ فقال: «وكانت يتيمة ربّاها ابن رضوان قد سرقت كتبه وهربت، فتعثّر واضطرب، وكان ذا سفهٍ في بحثه، ولم يكن له شيخ، بل اشتغل بالأخذ عن الكتب» سير أعلام النبلاء: للذهبي (18/ 105).

 

تلقي المريد عن شيخه:

والحديث عن أخذ العلم عن الشيوخ له صلة بأخذ المريد السلوك والطريق عن شيوخ التصوف، إذ يتردّد بين القوم مقولةُ: «من ليس له شيخ فشيخه الشيطان» [«من ليس له شيخ فشيخه الشيطان» هذه المقولة نقلها أبو القاسم القشيري (ت: 465 ه)، عن أبي يزيد، بلفظ: «هذا أبو يزيد يقول: من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان» الرسالة القشيرية (ص:181)].

وهي مقولة شائعة في الأدبيات الصوفية، القصد منها الحثّ على صحبة العلماء الربانيين، والشيوخ المخلصين، للاستفادة من أقوالهم وأحوالهم، ونصحهم وتوجيههم، ولا يمكن التسليم بها على ظاهرها وإطلاقها، وإلا لزم من ذلك القول بضلال كل العلماء الذين لم يسلكوا طريق التصوّف على يد شيخ مربٍّ، والله تعالى أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين