كذبت أمي عشرا

 

قال الحارث بن همام: أحكي لك كذبات أمي؟ قلت: أأنت من أتباع النعمان بن ثابت الكوفي؟ قال: ما لك مستهزئا بمذهبي وضاحكا من انتمائي، إياي مُذِلاًّ وبي مزدريًا، وما أراك إلا أن مخالطتك للسلفيين وصحبتك لمنتحلي الحديث قد أفسدتك أيَّما إفساد، فلا ترقبُ في مؤمن إلاًّ ولا ذمة. قلت: اربعْ على نفسك، ولا تأخذنَّ بك الحمية كل هذا المأخذ، وإياك إياك أن تكون من الطائشين المتهورين، وكيف سوَّغت لك نفسك أن تسيء بي الظن واغرا صدرُك ضارما غيظُك؟ أفيخفى على مثلك أني من محبي الإمام أبي حنيفة وسائر الأئمة، رحمهم الله تعالى، أو لستَ على ذلك من الشاهدين؟ قال: فما لك سخِرت من انتسابي إلى الإمام الأعظم؟ قلت: أردتُ ما روي عنه أنه قال: لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت أمي لأنها أولى بحسناتي، وكان أبعد الناس من الغيبة، وما سمعه الناس يغتاب أحدا، ومن ثم قال سفيان الثوري: هو والله أعقل من أن يُسَلِط على حسناته ما يذهب بها.

فلما عرضتَ علي أن تحكي كذبات أمك حسبتك قاصدا أن تهدي إليها حسناتك متبعا أبا حنيفة ومقتفيا أثره، قال: وأنَّى أنا من أبي حنيفة والصالحين؟ إن هذه الكذبات التي أسردها لك ليست من الغيبة في شيء، بل هي إشادة بفضل أمي وتنويه بشأنها، وتنبيه على ما أُودِعَتْه الأمهات من طهارة نفس ورقة قلب ونزاهة باطن وما تكنه جوانحُهن من الحب الخالص والود الصافي والحنان العميق، فاسمع إن كنت على السماع من الصابرين، قلت: هات ما عندك.

قال الحارث: مات أبي وأنا صغير، غير تارك طارفا ولا تالدا، ولا مورث دينارا ولا درهما، فاكتنفتنا البلايا من كل مكان، وكابدنا صعودا باهظا وكؤودا باهرا، وربتني أمي، وهي ركني ورجائي، في شظف عيش وضيق حال، متجشمة المشاق وخائضة الغمرات، ومتحلية بعزة نفس ونزاهة وعفاف وأنفة وصيانة، ودفع إليها بعض أقربيها مالا من زكاة، فأبت أن تقبله، وقالت: إني غنية لا تحل لي الصدقة، وهذه كذبتها الأولى.

تأيَّمت شابة جميلة، وعنيت بتربيتي وتنشئتي مضحية في سبيلها أحلى أيام حياتها وأطيبها، لا تمنُّ ولا تستكثرُ، وخطبها الخاطبون فجَفَتْهم طاويةً عنهم كشحَها معرضة إعراضا، ورأى جيرانها وعشيرتها مقاساتها لشدائد الدهر في كد ونصب فأشاروا عليها بالزواج نصحا لها شفقة عليها وعطفا وحنوا، فقالت: لا أهوى الزواج ولا أشتهي الاقتران، وهذه كذبتها الثانية.

وكانت تشتغل في الخياطة، تنفق على البيت ما تكسب منها، ولم تجد مرة شغلا لعدة أيام، واشتد الأمر عليها إذ لا تملك ما تطبخه لنا، وكان لديها شيء من الخبز اليابس، ويا له من طعام شهي لمن صادَقَتْه المخمصة والمجاعة، فلما دخلت البيت أعطتني الخبز، فسألتها أن تأكل معي، فقالت: لست جائعة، وهذه كذبتها الثالثة.

ووافى يوم عيد، ولا يزيد العيد المُقْتِرين المُعْوزين إلا بؤسا وشقاء، ونُكرا ولَولاء، فاستخرجتْ أمي ما ادخرته من مال قليل واقتنته باقتصادها في الإنفاق، واشترت لي ثوبا جديدا وبعض هدايا، فقلت لها: يا أمي، إنك مبتذلة ثيابك رثة كسوتك، لو اشتريت لنفسك ثوبا جديدا كذلك، قالت: إني قد كبِرتُ وتقدمتْ سني، زاهدة في الحلية والزينة، والثياب الجديدة، وهذه كذبتها الرابعة.

ووفَّرت أمي مرة نقودا واشترت بها شيئا من اللحم، فقدمته كلَّه إليَّ مطبوخا، وقالت: يا بني إني طبخت لك هذا اللحم الطيب الشهي فكله، فقلت: نشاطره، قالت: لا أستمرئ اللحم، وهذه كذبتها الخامسة.

ولما التحقت بالمدرسة الثانوية ارتفعت تكاليف دراستي، فزادت من عملها، وقد تسهر الليل مسهَّدة أرِقة مرغمة نفسها على الخياطة، وانتبهت مرة في آخر الليل مبصرا إياها منهمكة في عملها، فاستعبرت واغرورقت عيناي، وقلت: يا أمت استريحي ونامي، فقد يؤلمني أن تكدي الليل والنهار غير آخذة قسطا من النوم والراحة، قالت: يا بني لا تهتم ولا تحزن فإني لا أشعر بتعب وإعياء، ولا يغالبني نوم ولا رقاد، وهذه كذبتها السادسة.

وكانت دائما تستقبلني بباب المدرسة عند انقضاء الدوام المدرسي، وتصحبني إلى البيت، ورجعت معها مرة وقد قضيت ساعات صعبة من الاختبار، في يوم شديد الحرارة، فأحضرت لي كأسا من العصير البارد كانت قد أعدَّته لي، فقلت لها: اشربي منه، قالت: لا أشعر بعطش، وهذه كذبتها السابعة.

وأصيبت مرة بالحمى، منهوكةً بالوعك مضناةً بعِلَّتِها، فسألتها أن تستشير طبيبا، وتأخذ من الدواء ما يصفه، فقالت: إن الدواء يزيدها مرضا، وستُبَلُّ إن شاء الله تعالى بدون دواء صحيحة معافاة، وهذه كذبتها الثامنة.

ولما أكملت دراستي واشتغلت في شركة، قلت لأمي: قد تعبت طول حياتك من أجلي وضحيت بشبابك وقوتك في تربيتي، وآن لك أن تستريحي، ولا تشتغلي، فإن راتبي يكفي مؤن البيت، وسنرتاش بعد فقر مجبورا كسرُنا، ولكنها كانت ترى أني أحتاج إلى مالي للزواج ومستلزمات العيشة الهنيئة ومرافقها، فقالت: بارك الله فيك يا بني، أنا أستمتع بالعمل، وهذه كذبتها التاسعة.

وأخيرا أصيبت أمي بالسرطان، وأدخلت في المستشفى، ويئسنا من علاجها، ولما رأيتها في هذا الألم عيل من صبري وأُجهشْت بالبكاء في مضض وحرقة ولذعة، فقالت أمي: يا بني لا تبك، فليس بي وجع ولا ألم، وهذه كذبتها العاشرة، ثم لفظت نفسها الأخير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين