كتاب المسوى للإمام ولي الله الدهلوي ومنهجه

مكانة الموطأ عند الإمام الدهلوي:

كان الإمام الدهلوي يعتبر كتاب الموطأ العمدة والأصل لمذاهب الفقهاء والمؤلفين في الحديث، ; وكان في رأيه هو كتاب الفقه ومبنى الاجتهاد، فلا يسع لمجتهد أن يستغني عنه، يقول في مقدمة الكتاب: "وكتاب الموطأ أصح كتب الفقه وأشهرها وأقدمها وأجمعها، وقد اتفق السواد الأعظم من الملة المرحومة على العمل به، والاجتهاد في روايته دراسته، والاعتناء بشرح مشكلاته ومعضلاته، والاهتمام لاستنباط معانيه و تشييد مبانيه، ومن تتبّع مذاهبهم ورزق الإنصاف من نفسه علم لا محالة أن الموطأ عدة مذهب مالك وأساسه، وعمدة مذهب الشافعي وأحمد ورأسه، ومصباح مذهب أبي حنيفة وصاحبيه ونبراسه، وهذه المذاهب بالنسبة للموطأ كالشروح للمتون، وهو منها بمنزلة الدوحة من الغصون"[2]

إن الإمام الدهلوي فكر في هذه الأحزاب المتشعبة المختلفة وشاهد بأم عينيه ما كان عليه العلماء من العصبية الشديدة لمذاهبهم الفقهية والتمسك بأقوال أئمتهم، لا يحيدون عنه قيد شعرة، والرد على الآخرين وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ودرس مذاهبهم فوقع في الحيرة من كثرة اختلافاتهم، ولم يكد يتبين له وجه الحق، وما وجد قلبه طمأنينة بأحد منها حتى أرشدته الإشارة الغيبية بعد التضرع إلى الله ورزق من الله الالهام بأنّ أصح الكتب بعد كتاب الله هو الموطأ، وها هو الإمام يتحدث عن ذلك، فلنسمع إلى قصته على لسانه: "إنه قد حصل لي تشويش في القلب بسبب اختلاف مذاهب الفقهاء وكثرة أحزاب العلماء، وتجاذبهم كل واحد عن الآخر إلى جانب، وذلك لأنه لابد من تعيين طريق للعمل، والتعيين بلا مرجح سفسطة، ووجوه الترجيح كثيرة، والعلماء قد اختلفوا في تقريرها اجمالاً، وتفصيلاً، اختلافاً فاحشاً، فتشبثت ذات اليمين وذات اليسار بلا طائل، واستعنت بكل أحد بلا جدوى، فبعد ذلك توجهت إلى الله سبحانه وتعالى متضرعا، وقلت لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، فألهمت الإشارة إلى كتاب "الموطأ" تأليف الإمام الهمام حجة الإسلام مالك بن أنس، وعظم ذلك الخاطر رويداً فرويداَ، وتيقنت أنه لا يوجد الآن كتاب ما في الفقه أقوى من موطأ الإمام مالك، لأن الكتب تتفاضل في ما بينها إما من جهة فضل المصنف، أو من جهة التزام الصحة، أو من جهة شهرة أحاديثها، أو من جهة القبول لها، من عامة المسلمين أو من جهة حسن الترتيب، واستيعاب المقاصد المهمة، ونحوها، وهذه الأمور كلها موجودة في الموطأ على وجه الكمال بالنسبة إلى جميع الكتب الموجودة على وجه الأرض الآن".[3]

ويقول في مقدمة المصفى: "لقد انشرح صدري وحصل لي اليقين بأن الموطأ أصح كتاب يوجد على وجه الأرض بعد كتاب الله، كذلك تيقنت أن طريق الاجتهاد وتحصيل الفقه بمعنى معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية مسدود اليوم على من رام التحقيق إلا من وجه واحد، وهو أن يجعل المحقق الموطأ نصب عينيه، ويجتهد في وصل مراسيله ومعرفة مآخذ أقوال الصحابة والتابعين، بتتبع كتب أئمة المحدثين ثم يسلك طريق الفقهاء المجتهدين في المذاهب من تحديد مفهوم الألفاظ وتطبيق الدلائل وتبيين الركن والشرط والآداب، واستخلاص القواعد الكلية الجامعة المانعة، ومعرفة علل الأحكام، وتعميمها وتخصيصها، وفقاً لعموم العلة وخصوصها، وأمثال ذلك".[4]

وهكذا اهتدى الإمام إلى الموطأ أوثق وأصح الكتب بعد كتاب الله ليكون معتمده في المسائل الفقهية والاجتهاد دون الرجوع إلى الكتب الفقهية والاعتماد الكامل على آراء أئمة المذاهب.

و قد كان سبب ترجيح هذا الكتاب اتفاق المحدثين على جلالة قدره وجمعه بين الفقه والحديث وإن الإمام يعتبر الإمام مالكاً وارث علوم الأولين ومصدر علوم الآخرين ومأحذهم، والذي لفت نظره إلى كتاب الإمام هو كونه مرجع الفقهاء بعده.

وقد كان الإمام يرى الموطأ عمدة وأصلاً وكتب الصحاح الأخرى مستخرجات عليه تحوم حومه وتروم رومه فيقول: "وعلم أيضاً أن الكتب المصنفة في السنن كصحيح مسلم، وسنن أبي داود، والنسائي، وما يتعلق بالفقه من صحيح البخاري وجامع الترمذي مستخرجات على الموطأ تحوم حومه وتروم رومه، مطمح نظرهم فيها وصل ما أرسله ورفع ما أوقفه، واستدارك ما فاته وذكر المتابعات والشواهد لما أسنده، وإحاطة جوانب الكلام بذكر ما روى خلافه......وبالجملة فلا يمكن تحقيق الحق في هذا ولا ذاك إلا بالإكباب على هذا الكتاب"[5]

وهذه الدوافع والخصائص لهذا الكتاب هي التي حملت الإمام على وضع شرحين للكتاب، أحدهما وجيز بالعربية والثاني بسيط بالفارسية[6] برزت فيهما الصناعة الاجتهادية للإمام الدهلوي وتجلت عبقريته ومكانته الفريدة ونظراته الواسعة على مذاهب الفقهاء.

وإذا كان الكتاب قد نال أهمية من خلال موضوعه وأسلوب تصنيفه في اعتنائه بالوحدة الموضوعية فإنه يزداد أهمية بمصنفه العلم النبيه ذي الملكة الفقهية الوقادة الذي يتميز بكثير من آراءه السديدة واقواله الملهمة ودراسته الواسعة عن غيره من العلماء

ولكنّ الإمام لم يكتف بالشرح فحسب بل رتب أحاديثه ترتيباً يسهل تناوله حتى صار الكتاب كأنه نسخة مستقلة من النسخ الكثيرة للموطأ وضمّ إلى ذلك من القرآن الكريم مالا بد للفقيه منه، وهذا هو منهجه في ترتيب الكتابين الطويل والوجيز إلاّ فرقاً يسيراً في الشرح كما سيأتي ذكره مفصلاً، ولقد بين المصنف سبب هذا الكتاب وما حمله على ذلك قائلاً: "لا يخفى أن الفقهاء والمحدثين بعد الإمام مالك أتقنوا في تبويب الأحاديث وترتيب المسائل، وقد اجتهد الفقير في ترتيب أحاديث الموطأ على منهاج تقرر عليه ترتيب كتب الفقه غاية الجهد".[7]

ويعتبر الإمام هذا التر تيب رواية جديدة ـ كما سبق وكما يظهر من كلامه ـ حيث يقول: "إن ملاحظة هذه الأمور شوقتني أولا إلى رواية الموطأ، وثانياً إلى شرحه فرتبت مسائله الفقهية حسب ترتيب كتب الفقه وزدت في كل باب الآيات الشريفة المناسبة لذلك الباب"[8] وما أحسن ترتيب الإمام للموطأ حيث رد الأحاديث إلى مظانها وسهل تناولها للطالبين و الباحثين فهناك بعض الأحاديث التي كانت موجودة في كتاب الطهارة فحذفها منه مثل "باب ما يحلّ للرجل من امرأته في الحيض" ولم يكن "باب النهي عن القبلة عند الغائط" في كتاب الطهارة بل كان في كتاب القبلة فردها إلى كتاب الطهارة كذلك "باب النهي عن مس المصحف عند الجنابة" لم يكن في كتاب الطهارة بل كان في كتاب القرآن فرده إليه.

أما موقفه من فتاوى مالك فقد ذكرنا أنه حذف كثيراً، وقد ذكر ذلك بنفسه فبين أنه ما أخذ من مختارات مالك إلاّ ما اتفق عليه الفقهاء، كما يقول في كتابه: "يذكر الإمام مالك مختارات الفقهاء ومختاراته أو عمل أهل المدينة ويقول : السنة عندنا كذا وكذا، فصرح الإمام الشافعي أن هذه المسائل ليست إجماعاً من أهل المدينة بل قد يكون من مختارات طائفة من شيوخ الإمام مالك أو يكون مختارا عند الإمام مالك، فذكرت في هذا الشرح من القسم الأخير ما اتفق عليه جمهور العلماء، وتركت ما تفرد به الإمام مالك."[9] أما الأحاديث والآثار فلم يحذف المصنف منها شيئاً بل غير مكانها فحسب وربما فرق أحاديث باب واحد في أبواب مختلفة كما صرح الإمام بذلك في مقدمة الكتاب فيقول: " وقد اقتضى الحال في بعض المواضع أن أفرق الحديث في بابين فراعيت في ذلك شرطه المعتبر عند أهله، وفي بعضها أن أذكر حديثا واحدا مرتين، فإن كان بإسنادين فبها وإلا سقت الإسناد في موضع، وقلت: في الموضع الآخر: قال مالك بإسناده كذا وكذا، وقد استوعبت أحاديث الموطأ وآثاره في هذه النسخة"[10]

هذا ما يتعلق بالترتيب فإنّ المؤلف قد عده نسخة مستقلة كما يتبين من كلامه، وقد اشترك في هذا الترتيب وخصائصه شرحان للمصنف كلاهما كما ذكره الإمام المصنف في المقدمة لكل من الكتابين، فتلخص عمل المصنف في الترتيب وإعداد النسخة في النقاط التالية:

(1) وضع ترجمة جديدة غير تراجم أبواب مالك لكل باب وذلك بما يناسب ما استنبط منه جماهير العلماء.

(2) زيادة آيات مناسبة للقرآن في بداية كتاب ما لابد للفقيه من تفسيرها وحفظها.

(3) تفريق حديث واحد في بابين عند اقتضاء الحال مع مراعاة شروطه المعتبرة.

(4) ذكر حديث واحد مرتين في بعض المواضع عند اقتضاء الحال مع حذف الإسناد في مكان آخر.

وكذلك من خصائص تلك النسخة التي أعدها الإمام الدهلوي الإشارة إلى الأوهام والإحالة إلى الروايات، فكثيرًا ما يقول عند الاختلاف في الروايات "هكذا في الأصل" ولا نعلم أي نسخة من الكتاب يريدها الإمام بهذه الكلمة.

خصائص الكتاب ومنهج المصنف فيه:

ولكل من الكتابين خصائص يمتاز به عن غيره فإذا كان الأول يقدم لنا أروع نموذج للإيجاز فالثاني يمثل الاطناب، ولا يهمنا الآن البحث عن المصفى بالفارسية الذي يكاد يحتلّ مكانة فريدة في بابه لكثير من آراءه الفقهية والكلامية القيمة وغيرها من المباحث النفيسة مما تكاد تخلو عنها الشروح الأخرى.

كان المسوى قد تم تأليفه في جمادى الأولي سنة1164هـ قبل تصنيف المصفى كما يظهر ذلك من كلام المصنف في مقدمته، حيث ذكر فيه إرادته لوضع شرح بالفارسية، ثم قدر الله اتمام الكتاب للمصنف ولكنه عاجلته المنية عن تهذيبه، فقام به تلميذه وابن خاله محمد عاشق البهلتي بعد وفاة المؤلف، وفرغ منه في 18شوال1179هـ.

أما منهجه في هذا الشرح فقد بينه المصنف في مقدمة الكتاب، وذلك يتلخص في النقاط التالية:

(1) ذكر في كل باب مذاهب الشافعية والحنفية ويذكر مذاهب الآخرين مما تعرض لها في شرحه الطويل بالفارسية وذلك نظراً للإيجاز والاختصار الذي اختاره المصنف في هذا الكتاب وسبب ذلك ـ كما يصرح بنفسه ـ أنهما هما الفئتان العظيمتان اليوم وهم أكثر الأمة وهم المصنفون في الفنون الدينية وهم القادة.

(2) بيان ما تعقب به الأئمة على مالك بإشارة حيث كان التعقب بحديث صحيح صريح.

(3) شرح ما جاء من الألفاظ الغريبة وضبط المشكل عند الحاجة.

(4) بيان معاني الأحاديث الفقهية من بيان علة الحكم وأقسامه وتأويل الأحاديث عند الفريقين.

وإليكم نصّ عبارته التي بين فيها منهجه مقتبساً من مقدمة الكتاب ، يقول الإمام: "هذا، وقد شرح الله صدري-والحمد لله-أن أرتب أحاديثه ترتيبًا ليسهل تناوله، وأترجم على كل حديث بما استنبط منه جماهير العلماء، وأضم إلى ذلك من القرآن العظيم ما لابدَّ للفقيه من حفظه، ومن تفسيره ما لابدَّ له من معرفته، وأذكر في كل باب مذهب الشافعية والحنفية إذ هما الفئتان العظيمتان اليوم، وهم أكثر الأمة، وهم المصنفون في أكثر الفنون الدينية، وهم القادة الأئمة، ولم أتعرض لمذهب غيرهما تسهيلا على حاملي الكتاب ورغبة فيما هو الأهم في الباب إلا في مواضع لنكت، وأبين ما تعقب به الأئمة على مالك بإشارة لطيفة حيث كان التعقب بحديث صريح صحيح، وأبين ما مست إليه الحاجة في معانيه اللغوية من شرح غريب وضبط مشكل، أو معانيه الفقهية من بيان علة الحكم وأقسامه وتأويل الأحاديث عند الفريقين ونحو ذلك.

ولم أتعرض لذكر من أخرج الحديث من أصحاب الأصول الستة إلافي مواضع يسيرة، لأن العلماء قد فرغوا منه وأغنونا عنه علمًا مني بأن مسند الدارمي إنما صنف لإسناد أحاديث الموطأ"[11]

يتضح بهذا النص الذي أوردناه المنهج الذي سلكه المصنف في شرح الموطأ، وهكذا يجمع كتابه الأحاديث والفقه معاً، فيفيدنا بتفصيل المذاهب الفقهية كما يفيدنا في بعض الأحيان بفوائد الأسانيد ومباحث دقيقة للرجال.

ومن أبرز مزايا الكتاب الذي يكاد يكون متفرداً به بين الشروح الأخرى هو شرحه لمعاني الحديث وبيانها بأوجز كلمات يتجلى في غضونها أنه ملهم موفق من الله عز وجلّ كل التوفيق في شرحه وتفصيله وبيانه، فإن المصنف ربما يشرح معاني الحديث بناءً على فهمه وربما يستند إلى كتب الأحاديث وشروحها، وأكثر ما يستدل بصحيح مسلم وصحيح البخاري ثم بالسنن الأربعة، ولم يذكر أحاديث ابن ماجة إلاّ نادراً، وإن شرحه لمعاني الحديث شرحاً ساذجاً يفتح باب الالهام ويوفر للقارئ الفرصة من الاطناب .

ولقد ساعدته نظراته الواسعة على مذاهب الفقهاء وأراء المحدثين وأقوالهم في شروح الحديث على ذكر أصح الروايات عنهم في المذاهب وأقربها إلى الصواب وأوفق المعاني بالحديث.

وبالجملة فإن مباحث الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام (1) شرح معاني الحديث شرحاً صحيحاً (2) تعيين معاني الحديث بالكتب الحديثية الأخرى (3) المباحث الفقهية.

والكتاب ـ على لسان مصنفه ـ جامع لخمسة أنواع من الأحكام "هي العمدة لمن أراد أن ينتهج مناهج الكرام، (1) ما أخذ من نصوص الكتاب، (2)وما أثبته الأحاديث المستفيضة

(3)أو القوية المروية من الأصول في كل باب، (4)وما اتفق عليه جمهور الصحابة والتابعين، (5)وما استنبطه ومالك وتابعه جماعات من الفقهاء المحدثين"[12].

وقد كان الإمام يرى في القيام بهذا العمل فتحاً لأبواب الخير ويعده سبباً لرفع النزاع فيما بينهم ومركز وحدتهم، يجتمعون عليه وذلك مما ألهمه ربه تبارك وتعالى، وإليك نص كتابه: "وفهّمني الحق أن في ذلك فتح الأبواب الخير وجمع الشمل الأمَّة المرحومة، وهذا لطبائع جامدة طالما ركدت وإرشادا إلى طرق من العلم طالما تركت".[13]

وكذلك من خصائص هذا الشرح أنه يشير إلى المسائل التي اتفق عليها الأئمة الفقهاء بقوله " وعلى هذا أهل العلم " أو "وعلى هذا أكثر أهل العلم".

وأما المسائل فلا يتعرض ـ كما بين ذلك في كتابه ـ إلاّ لمذاهب الحنفية والشافعية، ولكن بعض من قام بدراسة المسوى يزعم أنّه لم يترك ذكر أحد من المذاهب الأربعة، فإنّ مسائل مالك ومذاهبه موجودة في الموطأ، أما مذهب الإمام أحمد فعامة توجد له روايتان، وبعض الأحيان عدة أقوال وروايات في باب واحد يوافق أحدهما مذهب المالكية والثاني مذهب الشافعية، وهكذا أورد في كتابه مذاهب الأئمة الأربعة وإن لم يصرح بمذاهب أحمد ومالك، وأما ما أشار إليه من ترك ذكر المذاهب واختلافها فالمراد به المذاهب المتروكة لغير الأئمة الأربعة.[14]

وأما الرجال الذين استند إليهم المصنف في كتابه وأورد ذكرهم فمنهم الشافعي والنووي والمحلي والبغوي والبيهقي والدارقطني والحاكم وابن العربي، وربما استدل بالأوزاعي وإسحاق والخطابي والواحدي، والكتب التي يأخذ عنها ويذكرها هي " الرحمة" و"الروضة" و"القبس" و"الفتاوى العالمكيرية" وموطأ الإمام محمد ، وأكبر مصدره في الفقه الحنفي "الفتاوى العالمكيرية" الذي كان له دوي في عصره ، ويستند في الفقه الشافعي إلى "شرح المنهاج" للمحلي و"شرح السنة" للبغوي.

ثناء العلماء عليه:

وقد نال الكتاب تقدير كثير من العلماء وثناءهم بما يدلنا على مكانة الكتاب عندهم وعظمته في قلوبهم، فيقول الشيخ محسن بن يحيى البكري الترهتي في كتابه الشهير "اليانع الجني" عن هذا الكتاب في ذكر الإمام الدهلوي: "وهذا كتابه المسوى، فيه ودائع من بدائعه جلت عوائدها وإن قل عددها"[15]

ويقول الشيخ أبوالحسن الندوي رحمه الله وهو يعلق على الكتاب بعد ذكر عناية الأمة بالموطأ شرحاً وتخريجاً: "ولكن لم يوفق للموطأ شارح مثل شيخ الإسلام ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي، فإن لشارح الموطأ شروطاً:

منها أن يكون الشارح عارفاً بفضل الكتاب وغزارته وتقدمه ومكانته ومزاياه فينبه عليها وينوه بها، ويراعيها في الشرح، فيكون الشرح أقرب إلى المتن وأشبه به.

وأن يكون قبل كل شيئ سلفياَ محققاً أصولياً مجتهداً متضلعا من مذاهب السلف وحججهم.

ثم يقول مبيناً لخصائص مؤلفات الإمام: "يعرفه المشتغلون بكتبه وهو انصاف حكم ونزاهة كلام واعتدال مقال واستقامة مذهب وعدم اشتغال بالمباحث الفارغة والجدل والخصومات وتحقيق وميل إلى كلام جامع معقول بسيط ينقاد له العقل، وحكم قاض وعدم تعمق مع قوة الاستدلال وسذاجة السلفية".[16]

ثم يقول بعد ذكر منهج المصنف في الكتاب وترتيبه وتهذيبه :"فلو لم يقتن الكتاب إلاً لأجل هذا الترتيب والتهذيب...... ما كان غريباً"[17].

وقال الشيخ عبد الوهاب السلفي في تقديمه للكتاب: "ومن أحسن تآليف هذا الإمام الجليل شرحه للموطأ الذي سماه "المسوى من أحاديث الموطأ" فإنه جدير بأن يقرأه كل متفقه في الدين في بداية أمره حتى يكون لعلمه كالأساس المتين، لأنه مع اختصاره جامع لخمسة أنواع الأحكام، ما أخذ من نصوص الكتاب، وما أثبتته الأحاديث المستفيضة أو القوية المروية من الأصول في كل باب، وما اتفق عليه جمهور الصحابة والتابعين، وما استنبطه مالك وتابعه جماعات من الفقهاء المحدثين.

وهذا إذا عرفه الطالب وحفظه يحصل له اطمئنان في القلب ويسلم من كثير من الشكوك والأوهام التي تعتري من يبتدئ في طلبه بكتب تجمع بين الصحيح والضعيف من الأحاديث والغث والثمين من الفقه وأقوال العلماء"[18]

ويعقب عليه الأستاذ محمد بن علوي بن عباس المالكي الحسني في كتابه "فضل الموطأ وعناية الأمة الإسلامية به" قائلاً: "قلت: وقد قرأت بحمد الله هذا الشرح وطالعته عن آخره فوجدت فوق ذلك كله، إنه يزيد من عنده باباً بحاله وذلك مثل "باب الوضوء و الغسل والتيمم لمن أراد التيمم وهو محدث أو جنب" وضمنه آية يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة وآية لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وشرحها شرحاً جيداً وكلّ ذلك ليس في الموطأ.

وكذلك "باب يستحب تأخير النفر إلى رمي الثالث ويجوز تعجيله" وذكر آية "واذكروا الله" وبين أن عمل أهل العلم على ذلك و هذا ليس في الموطأ"[19]

وقال: "وذكر أنه استوعب أحاديث الموطأ في صدر كتابه إلاّ أن الشيخ عبيد الله السندي اعترض على هذا الإطلاق واستدرك عليه حديثا فاته في "باب من قام عن صلاة فليصلها إذا ذكرها".[20]

وهذا نص الشيخ عبيد الله: "قال الشيخ المؤلف: قد استوعبت أحاديث الموطأ وآثاره في هذه النسخة، ولكن بعد التفحص ما وجدنا رواية زيد بن أسلم في نسخ المسوى وإنما ذكر الشيخ اختصارها في "باب الإقامة للفائت" فأضفنا في هذا الباب مرسل زيد كما وقع في رواية يحيي، والله الموفق".[21]

وعلى العكس من ذلك يرى الدكتور يسين مظهر الصديقي أنّ الإمام لم يحذف شيئاً من الكتاب من الأحاديث أو من فتاوى مالك وهذا يخالف ما صرح به المصنف في مقدمته للكتاب كما تقدم ذلك مفصلاً[22]. كما يخالفما صرح به نجله الجليل وخليفته في العلم والعلم سراج الهند الشيخ عبد العزيز الدهلوي من حذف أقوال مالك، يقول الشيخ في كتابه "بستان المحدثين": "والف شيخنا وقدوتنا في كلّ العلوم والأمور الشيخ ولي الله الدهلوي ـ قدر الله سره العزيزـ شرحين على أحاديث الموطأ(رواية يحيى بن يحيى الليثي) وآثاره وحذف منه أقوال مالك وبعض ما يقول فيه "بلغني"، أولهما دقيق بالفارسية أسماه "المصفى من أحاديث الموطأ" والثاني مختصر موجز باللغة العربية اقتصر فيه على ذكر مذاهب الفقهاء الحنفية والشافعية وما لابدّ منه من شرح الغريب وضبط المشكل أسماه "المسوى من أحاديث الموطأ"[23]

طبعات الكتاب:

وقد صدرت للكتاب عدة طبعات، أما الطبعة الأولى فكانت على حاشية الشرح الفارسي المسوى وحينذاك كان متن الكتابين واحداً، ثمّ أفرد طبعه في المكتبة السلفية بمكة المكرمة برعاية الشيخ عبدالوهاب الدهلوي سنة 1352هـ وكانت هي الطبعة المستقلة والمحققة للكتاب، وألحق فيه مقدمة الكتاب الفارسي نقلاً إلى العربية، ثمّ أعيد طبع هذه الطبعة من بيروت مرتين من دار الكتب العلمية بيروت، الأولىسنة1403هـ الموافق1983م والطبعة الثانية سنة 1422هـ الموافق سنة 2002م، ولم يصرح بإعادة الطبعة السابقة بعد الكتابة الجديدة بل كتب على غلافه "علق عليها وصححها جماعة العلماء بإشراف الناشر" مع أنه لا يختلف عن الطبعة السابقة إلاّ في الترقيم .

وقد كتب العارف بعلوم الإمام الدهلوي وصاحب النظرة الواسعة فيها الشيخ عبيد الله السندي في بعض هوامش طبعة المكتبة السلفية عن روايات الكتاب وطبعاته: "رواية الكتاب مستفيضة عن مسند الهند الصدر الحميد مولانا محمد أسحاق وهو قرأ على جده لأمه سراج الهند الإمام عبد العزيز بالبحث والتحقيق، كما قرأ جده الشيخ عبد العزيز على أبيه حكيم الهند الشيخ ولي الله الدهلوي بالتحقيق والتفقه في الأسانيد والمتون، طبع الكتاب أول مرة في سنة 1293هـبمرأى ومسمع من كبار أصحاب الصدر الحميد، واهتمّ بطبعه سيد من السادة الغزنوية الآخذين عن شيخ الإسلام السيد نذير حسين الدهلوي ـ أعني به الشيخ الصالح محمد بن عبدالله الغزنوي ـ ثمّ طبع مرة ثانية باهتمام الفاضل "كفاية الله الدهلوي "الديوبندي رئيس جمعية علماء الهند سنة 1347هـ على هامش المصفى، وناولني الشيخ أبو الخير المكي نسخته التي قرأ فيها على الشيوخ المسندين بتسلسل القراءة إلى الإمام "ولي الله"[24]

ويقول الشيخ سلمان الحسيني في مقدمته للطبعة الجديدة:"وذكر الشيخ عبد الوهاب المعتني بإخراج هذا الكتاب أنه أول كتاب طبع في الحجاز، واستفاد الشيخ من نسخة الشيخ الجليل عبيد الله السندي ـ الذي كان يعتبر أكبر المتخصصين في علوم الإمام الدهلوي ــ للمسوى وتعليقاته المهمة، وكان هو الذي نبه الشيخ عبدالوهاب إلى قيمة الكتاب العلمية، __وقد قام بتصحيح هذه النسخة آنذاك فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزه المدرس بالمسجد الحرام وبدار الحديث، والشيخ عزيز أحمد الهندي، والشيخ عبد الله حجازي خريج المعهد السعودي بمكة المكرمة، وهو الذي كتب مسودة الطبع، والأستاذ الفاضل نظر أحمد أعار الشيخ عبدالوهاب نسخته الصحيحة....وشكر الشيخ عبدالوهاب في مقدمة هذا الكتاب، الفاضل الهمام الشيخ محمد صالح نصيف صاحب المطبعة السلفية بمكة المكرمة الذي اشترك معه في نفقات الطبع"[25]

وقد قام أخيراً أستاذنا الجليل الفاضل السيد سلمان الحسيني الندوي بتصحيحه ومراجعته وطبعه تحت إشرافه من المعهد العالي للدراسات الشرعية بدر العلوم التابعة لندوة العلماء لكناؤ (الهند).

الهوامش:

[1] استهانوان، بهارشريف

1 المسوى ص 50 ـ طبع لكناؤ1334هـ

[3] المسوى ص19، ترجمة مقدمة المصفى بالعربية، وهي نشرت في مستهل كتاب المسوى باسم "تسهيل دراية الموطا"

[4] المصدر السابق، ص 28

[5] المسوى ص51

[6] وقد قام بنقله إلى العربية الآن أستاذنا الجليل السيد سلمان الحسيني الندوي حفظه الله، وتم طبع الجزء الأول منه

[7] المسوى ص 28

[8] المصدر نفسه ص 30

[9] المصدر نفسه ص 36

[10] المصدر نفسه ص 52ء

[11] المصدر نفسه ص 51

[12] المصدر نفسه

[13] المصدر نفسه

[14] خدمات الإمام ولي الله الدهلوي في الحديث للدكتور يسين مظهر الصديقي ص 115

[15] اليانع الجني ص 123

[16] مجلة الضياء شعبان 1352هـ

[17] مجلة الضياء شعبان 1352هـ

[18] المسوى كلمة الناشر، طبع المكتبة السلفية ـ مكة المكرمة

[19]ص257 مطبعة السعادة بمصر _ ط : الأولى 1398هـ

[20] فضل الموطأ ص 256

[21] المسوى ـ طبع المكتبة السلفية

[22] راجع خدمات الأمام ولي الله الدهلوي في الحديث للدكتور يسين ص 115

[23]بستان المحدثين تعريب الأستاذ الدكتور محمد أكرم الندوي ص 64 طبع دار الغرب الإسلامي بيروت

[24] طبعة المكتبة السلفية بمكة المكرمة

[25] مقدمة المسوى للشيخ سلمان الحسيني الندوي ص 3 طبع لكناؤ 1434هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين