كان من الجن ففسق

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وبعد:

يقول الله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50].

عجيبٌ بديعٌ هذا التركيب القرآني (كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ)، فالجن الاستتار والخفاء، والفسق الخروج والظهور، ففي الآية لون بلاغي يسمى المقابلة، أي أن إبليس كان مستور الحال، لا يظهر ما في قلبه، ويخفي في نفسه ما الله مبديه، فما فضحه وأظهر أمره إلا أن أمره الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام فأبدى ما نفسه وعصى ربه عز وجل.

ولعل هذه الآية تفسر آية البقرة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].

فالله تعالى مطلع على السرائر، عالم بالمغيبات، {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69]، والجنة طاهرة طيبة لا ينبغي أن يسكنها أصحاب القلوب المريضة، فالله تعالى يقول عن أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47].

وكذلك لا يدخلها من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، كما جاء في صحيح مسلم، فلما اطلع الله تعالى على ما كان يخفيه إبليس وقد امتلأ كبرًا وغرورًا، امتحن الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم، فأظهر إبليس ما كان يخفيه، فطهر الله تعالى الجنة بإخراج إبليس منها؛ لتظل الجنة طيبة، وقص الله تعالى علينا هذا الموقف: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 12 - 13].

بذلك يظهر جمال التعبير القرآني: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين