قيمة الوفاء

مع مرور الأيام وتتابع السنوات تتغير أحوال الناس، وتتبدل طرق التعايش بينهم، ويضعف حضور بعض الأشياء الجميلة لديهم، ومن الأشياء الجميلة التي سرى إليها الضعف، واعتراها الضمور اليوم خلق الوفاء، الوفاء لمن أحسن إلينا يوماً... لمن فعل بنا خيراً... لمن وقف معنا في موقف حرج... لمن أعاننا على نائبة... لمن كشف عنا كربة... لمن مسح عن قلوبنا الحزن... لمن رسم على شفاهنا البسمة...

الوفاء لمن نفى عنا المضرة ، وأحلَّ مكانها المنفعة، لمن أدخل السرور علينا وطارد فلول الهم والكآبة إلى غير رجعة ...

وصار النسيان ... وصار النكران ... وصار التجاهل وكأن شيئاً لم يكن ... وكأن شيئاً من الجميل لم يحصل ... لقد غاض الماء... ماء الوفاء ... وهو نذير شؤم ... وبارقة تدهور في رباط العلاقات الاجتماعية ... وهو إلى ذلك

ليس بالخلق الكريم... وما هو من الطبع السليم...

إن الوفاء قيمة إسلامية كبيرة... وصفة إنسانية رائعة... ما تحلى بها صغير إلا كبر.. ولا عظيم إلا ازداد عظمة وسمواً .

لما انصرف رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَهْلِ الطَّائِفِ إذ لَمْ يُجِيبُوهُ لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَصْدِيقِهِ وَنُصْرَتِهِ، وهم بدخول مكة منعه كفار قريش من ذلك، فبَعَثَ إِلَى الأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ لِيُجِيرَهُ، فَقَالَ: أَنَا حَلِيفٌ، وَالْحَلِيفُ لا يُجِيرُ، فَبَعَثَ إِلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فَقَالَ: إِنَّ بَنِي عَامِرٍ لا تُجِيرُ عَلَى بَنِي كَعْبٍ، فَبَعَثَ إِلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَسَلَّحَ الْمُطْعِمُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوُا الْمَسْجِدَ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِ ادْخُلْ، فَدَخَلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى عِنْدَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ.

وبعد سنوات ... وفي يوم بدر ... لما أقيم الأسرى أسرى بدر من قريش بين يديه في صعيد واحد ... تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك اليد البيضاء للمطعم بن عدي ... ووفى له وجزاه بها بقوله : «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاءِ النَّتْنَى لتركتهم له».

وَإِذا صَـحِـبتَ رَأى الوَفاءَ مُجَسَّماً *** فـي بُـردِكَ الأَصـحابُ وَالخُلَطاءُ

وَإِذا أَخَـذتَ الـعَـهـدَ أَو أَعطَيتَهُ *** فَـجَـمـيـعُ عَـهدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفاءُ

أيها السادة : إن الوفاء ليس بذي تكلفة كبيرة ... إنه لا يقتضي كثير جهد ... ولا يستدعي أن ترد الجميل بمثله، فترجع المال مالاً... بل يمكن العرفان ... ويستطاع باللسان ...

لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليسعد النطق إن لم يسعد الحال

بالتذكر والثناء يؤدى بعض الوفاء ... قال كعب بن مالك في حادثة توبته: فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّؤُنَنِي بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْكَ حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ؛ فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ.

موقف واحد ... موقف بسيط ... قد يقف فيه إلى جانبك أحدهم فتضل تذكره له ... وتحكيه لأهلك وأولادك وأحفادك ... وتتغنى به كلما حانت مناسبة ... أو جرى حديث قريب منه .

كما قد يكون الوفاء بالدعاء... أو لم يقل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: من سأل باللهِ فأعطُوه، ومن استعاذ باللهِ فأَعِيذُوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صَنَع إليكم معروفًا فكافِئوه، فإنْ لم تَجِدوا ما تكافِئونَه فادْعُوا له حتى تَرَوا أنَّكم قد كافَأْتُموه، رواه أبو داود وأحمد وغيرهما.. فذاك هو...

الدعاء لمن أحسن إليك هو عين الوفاء...كان يَحيى بنُ خالد يُجْرِي عَلَى المحدث الشهير سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كُلَّ شَهْرٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَكَانَ سُفْيَانُ لا ينساها له ، فيَدْعُو لَهُ فِي سجوده، وأي دعاء ؟ دعاء عظيماً ... دعاء لا يكاد يخطر على بال ... كان يدعو فيقول: اللَّهمّ إنَّه قدْ كَفاني المؤنةَ وفرَّغَني للعبادة فَاكْفِهِ أَمْرَ آخِرَتِهِ.

فَلَمَّا مَاتَ يَحْيَى رَآهُ بعضُ أصحابهِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ اللهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بدعاء سُفْيَان. أورده ابن كثير في "البداية والنهاية"(205/10)

وقد أرسلت هذا الخبر في رسالة لرجل وقف مني موقفاً حسناً لأجزيه به، وما أنا بمكافيه.

أيها الإخوة : ما أشد ما أصبحنا نحتاج إلى خلق الوفاء، بعد أن تناكر الناس بعضهم لبعض، وجهل بعضهم حق بعض.

إن هذا الوفاء ... أوشك أن ينسى في خضم من نمو الذات ، وتضخم الأنا ، وغلبة النظر الضيق للذات الفردية .

(من أقوال أستاذ أساتيذنا الدكتور شكري فيصل رحمه الله تعالى في مقدمته على كتاب تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري ، للشيخين محمد مطيع الحافظ ونزار أباظة ، طبعة دار الفكر الأولى عام 1986م، 1/ 8.).

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين