قيمة المدارس الإسلامية

 

قالوا: إننا أصحابك وزملاؤك في أوكسفورد، نتعايش ونقضي ساعات طويلة معا في البحث والدراسة والحوار والنقاش غير متخالِّين ولا متحابِّين، وللصدق والولاء والمودة والصفاء مفارقين، كأن بيننا وبينك برزخا لا نتعداه ولا تتعداه، وكأن حاجزا يحول دوننا ودونك، فأجسادنا متآلفة متعارفة، وقلوبنا متخالفة متناكرة.

 قلت: ماذا تعنون؟ أتُعرِّضون بي أم أنتم في صداقتي من المُمترين، قالوا: أجللناك من أن نَسْتريب في أمرك، غير أنا لمحنا أننا نتجاذب أطراف الحديث في حوار حادٍّ، وموضوع جادٍّ، فترغب عنا إلى صلواتك، ونلقى تقلباتٍ أو عقباتٍ في حياتنا فيبلغ الجزعُ منا كلَّ مبلغ وأنت صابر ثابت، نغضب ونطيش وأنت هادئ صامت، نجهل ونرعن وأنت حليم رزين، نسعى متكاثرين في المال متنافسين حريصين عليه وأنت راض بما أوتيت قانع شاكر عليه، نحب بيوتا جميلة وسيارات فاخرة وأنت لها غير مكترث ولا مولٍ لها اهتماما، نتسكع في الأسواق ونختلف إلى النوادي، وأنت عاكف في بيتك والمساجد، فلا تغريك المغريات ولا تستفزُّك المستفزَّات.

قلت: لعل ذلك يؤوب إلى تبايننا في النشأة والتعليم، قالوا: نشأنا في بلاد الغرب وتربَّينا في أحضان معاهدها التعليمية، وهي ذات مناقب معلومة ومفاخر مرسومة، عادمة مثالب ومقابح تسيء إلى أسمائها أو تشوه لها سمعة، والعالم كله يُسْنِد إلينا ويأتَمُّ بنا في مناهج حياتنا ونُظُمنا التعليمية، فما الذي تعيبه علينا أو تُشنِّعنا به في التثقيف والتربية؟ قلت: إن التعليم في أوربا وفي العالم كله كان متقاربا في القصد والمرمى، إلى أن انفجرت الثورة الصناعية في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، فمر بتغيير جذري مستحدث وانقلاب جوهري غير مسبوق، مركِّزا على تكوين المهارات التي تنتج الثروة والمال، ومَعْنِيًّا بإحسانها وإتقانها، ومتعهِّدا بإعداد الناشئة وتدريبها للنظام الاقتصادي وكسب المال وإنتاجه، ولم يعد تكوين الشخصية يحمل معنى أو مغزى لديكم، فتشاهدون كبار العلماء والخبراء والباحثين الأكاديميين المنتسبين إلى المعاهد التعليمية الحديثة في الغرب وأذنابها في الشرق لا يفارقون السفهاء وذوي الجهل والغباء في الانقياد للشهوات والأهواء، يحملون في طياتهم ضغائن وأحقادا، ونيرانا موقدة من الحسد والغضب، متغطرسين مستكبرين، في الأموال والمناصب متنافسين مُتَبارِيْن، للحق غامطين، وعن الباطل غير مُرْعَوِين.

قالوا: حديثك صادق صارم مؤلم ونقد لاذع، وهل عُوفِيت مدارسكم الإسلامية من هذه الخِلال؟

 قلت: تُناضل محافِظة على هدفها جادَّة مصمِّمة أحيانا ومتباطئة متثبِّطة أخرى.

 قالوا: ما هدفها؟ قلت: هدفها تكوين شخصية العبد المسلم. 

قالوا: ما هي مقومات هذه الشخصية؟

 قلت: أساسها عبادة الله عز وجل والإخبات إليه والإعداد للآخرة والحياة بعد الموت، وتزكية النفوس من حب المال والمنصب والغضب والحقد والكراهية والحسد والكذب والنفاق وسائر الأخلاق السيئة.

 قالوا: كيف تحقق هذا الهدف؟ 

قلت: من طريق تعليم المواد الدينية من القرآن الكريم والسنة والنبوية والسيرة التي تثبت في النفوس هذه المثل والقيم، ومن طريق صحبة العلماء والشيوخ أعلام الهدى ذوي الأسوة والقدوة في العبادة وتهذيب النفوس وسائر الخصال الحميدة والمناقب والمكارم.

قالوا: ألستم من عُمّار هذه الأرض؟

 قلت: بلى، قالوا: فما لمدارسكم لا تحفِل بالمواد التي تدعو الحاجة إليها لعمارتها وللاستمتاع بالعيش فيها؟ قلت: بلى، إنها تُدرِّس المواد التي تسمى آلات ووسائل، فإذا أحكمها الطالب وأبدع فيها تنقَّل من طور إلى طور أسمى، فيتعلم في هذه المدارس القراءة والكتابة واللغة العربية وبعض اللغات المحلية والحساب والتاريخ والجغرافيا والمنطق والفلسفة، فإذا استكمل العالمية واصل الفضيلة ليتخصص في اللغة العربية أو بعض العلوم الإسلامية، أو التحق ببعض الجامعات العصرية إن أراد أن يُبَرِّز في المواد العلمانية وينال بعض تلك الشهادات التي تمهد له السبيل إلى إحراز وظيفة من الوظائف، أو اشتغل بالتجارة أو مارس بعض المهن والأعمال.

قالوا: قد طعن فيها الطاعنون من المسلمين وغيرهم، وفيهم من اقتبس من نورها وتلمذ على شيوخها مكتسبًا منهم العلوم والآداب، قلت: طعنوا فيها سابِّين لها ثالبين، طاغين في تقريعها والتشهير بها، فأرزأني أذاهم كما أرزأ غيري، قالوا: ما أوجعك واستثار فيك كل هذا الهم والحزن؟ قلت: لأن الطاعنين يريدون أن يصرفوها عن هدفها، ويحولوا بينها وبين دورها المعقود بها، ويسلبوها معنويتها وروحها، ويجعلوها خاوية جوفاء مثل المعاهد التعليمية العصرية، فيقسِرونها على أن تنثني عن تكوين الإنسان المسلم ذي الأخلاق والفضائل، وأن تدرِّب طلابها على مهارات كسب الثروة والمال، وأن يُجارُوا الناس فيما هم فيه مُتَجارُون، مزاحميهم غير موائمين ولا مستسلمين.

قالوا: نراك مغرقًا في الإفراط والغلو في شأن هذه المدارس، غير مستشعر حاجتها إلى تطوير وإصلاح، هل ترضى لها أن تبقى مُتْحفا أثريا في خِضَم الحياة المعاصرة الحافلة بالنشاط والقوة؟

 قلت: يسعى بعض القائمين عليها في إصلاحها وتطويرها.

 قالوا: ما هي النواحي التي يتعهدون بإصلاحها معنيين به مهتمين؟

 قلت:

الأولى: أنهم يراجعون المواد التي هي وسائل وآلات جادِّين أن تُلَبِّي حاجات زمانهم ومكانهم حتى يضطلع الطلاب المتخرجون من المواضيع العلمانية التي سيواصلون دراستها في الجامعات العصرية.

والثانية: أنهم يُطَوِّرون إمكانياتهم لإنتاج علماء محققين وباحثين أكاديميين في مجالات علوم القرآن والحديث والفقه والسيرة والتاريخ الإسلامي والأدب العربي.

والثالثة: أنهم يُكثِّفون جهودهم لتربية رجال يتحلَّون بالعلم والحلم والعفاف والزهد والحكمة والعدل وتقوى الإله، ومن المحزن المبكي أنه شوهد أخيرا متخرجون من هذه المدارس، مجرَّدين عن تلك النعوت، غير حلماء ثابتي الوطأة، ولا حكماء خافضي الأجنحة، يغضبون كما يغضب غيرهم، ويحقدون كما يحقد الآخرون، يتحاسدون ويتباغضون، في حب المال متنافسون، وإلى المناصب متسابقون، وفي عبادة ربهم مُقَصِّرون.

قالوا: ما دورها المرجو في عصرنا؟

 قلت: دورها أن تنتج هؤلاء الرجال الذين وصفتهم، والذين سيحتلون مكان القيادة والإمامة، ويبلغون مبلغا يشرفون به على غيرهم من العلماء ويخلد ذكرهم على الدهر عند الحكماء، وينتفع بهم الأمراء والأغنياء وعامة الشعوب والأمم محبين لهم مقبلين عليهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين