قيام رمضان

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران: 102].

)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1].

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71].

أما بعد، فها هي أيام رمضان ولياليه قد آذنت بالرحيل وولَّت حذَّاء([1])، وهكذا هي الدنيا )كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ( [الحديد: 20].

عباد الله: لقد بقيت من ليالي رمضان بقيةٌ صالحة يرجى أن تكون فيها ليلةُ القدر؛ التي هي خير من ألف شهر، والتي من حرم خيرها فقد حرم، ولا يحرم خيرها إلا محروم.

واعلموا أيها الموفَّقون أن أحب الأعمال إلى الله في هذه الليالي المباركات= قيام الليل.

إنه دأب الصالحين، وسمير المتقين، ومنشور ولاية المؤمنين، وفاتحة صفات عباد الرحمن  المحسنين. قال سبحانه: )إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ( [الذاريات: 16-17].

وقال جل وعلا: )وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا( [الفرقان: 63-64].

قيام الليل من أجل ما يتقرب به العبد إلى ربه بعد الفريضة، فعن أبي هريرة t يرفعه، قَالَ: سُئِلَ: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ؟ وَأَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: (أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، صِيَامُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ)([2]).

واسمعوا رعاكم الله إلى عبد الله بن سلَام t وهو يحدث عن مقدَم رسول الله r المدينة، قال: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ r الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ r، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ r عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ)([3]).

هذا أول شيء تكلم به r حين قدم المدينة، تأملوه يا عباد الله، فهذا دستور الإصلاح النبوي الذي رست به دعائم دولة الإسلام.

واسمعوا وفقكم الله ثانيةً إلى وصية أمين السماء لأمين الأرض، وصيةِ جبريل لنبينا عليهما الصلاة والسلام، فيما يرويه سهل بن سعد t قال: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ r، فَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزِّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ"([4]).

وتدبر يا عبد الله خطاب الله تعالى لنبيه r في أول الدعوة وهو يقول له: )يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا( [المزمل: 1-8].

هذه تربية الله تعالى لنبيه r في أول الدعوة، فرض الله عليه وعلى صحابته القيام لتحمل تكاليف الدعوة والجهاد بعد ذلك، إنها آيات عظيمة جليلة تهز القلب من أعماقه، أُمر النبي r فيها بالقيام فقام بعدها أكثر من عشرين سنة([5]) لم يسترح ولم يسكن بأبي هو وأمي، وهكذا اصحاب الدعوات تصنع نفوسهم في محاريب التهجد، ونسائم الأسحار.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أيها المسلمون: لئن كانت الشريعة حثت على قيام الليل مطلقا، ورغبت فيه أشد ترغيب= فإن الحث على القيام في رمضان آكد، والترغيب فيه أكثر، فرمضان شهر الصيام والقرآن والقيام.

أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة t أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).

وأخرجا أيضا من حديث أبي هريرة t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).

وشرط المغفرة كما دلت عليه الأحاديث: أن يقوم العبد مؤمنا محتسبا؛ مؤمنا بأمر الله تعالى ممتثلا له، محتسبا الأجر من عنده سبحانه.

وعن عمرو بن مرة الجهني t قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيَّ r، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ الزَّكَاةَ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَقُمْتُهُ، فممن أنا؟ قال: (من الصديقين والشهداء)([6]).

فانظروا حال هذا الرجل الذي لم يزد على الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام غيرَ القيام، فبشره النبي بهذه البشرى العظيمة، ولا شك أن العبد لا يبلغ هذه المنزلة إلا بإيقاع العبادة على وجهها الذي أمر به ربنا سبحانه، مستوفية الإخلاص له واستحضار عظمته وجلاله ومراقبته والاتباع لنبيه r.

وهذا الذي سبق في قيام رمضان عموما، أما العشر الأواخر المباركات التي نحن فيها فلها شأن آخر، لقد كان r يجتهد فيها اجتهادا عظيما، حتى إن عائشة رضي الله عنها تقول: "كَانَ رَسُولُ اللهِ r إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ"([7]).

وتقول رضي الله عنها: "كَانَ رَسُولُ اللهِ r يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ"([8]).

قام النبي r بأصحابه في هذه الليالي وطوَّل بهم حتى خشي الناس أن يفوتهم السحور، ثم ترك القيام خشية أن يفرض عليهم، ثم مضى الناس على ذلك في عهد أبي بكر t وصدر من خلافة عمر t، ثم لما استقرت الحال في عهد عمر جمع الناس على أُبي بن كعب وتميم الداري رضي الله عنهما، فصليا بالناس إحدى عشرة ركعة، أو إحدى وعشرين ركعة([9])، فكان القارئ يقرأ بالمئين([10])، حتى يعتمد الناس على العصي من طول القيام.

معاشر الأحبة: هذه حال نبيكم r وصحابتِه من بعده y في الجد والاجتهاد في هذه الليالي العظيمة، فجِدوا واجتهدوا، وأروا الله من أنفسكم خيرا، فإنما هي أيام قلائل، وإنما نحن في دار سباق وسفر إلى الآخرة، والموفق من أخذ له في هذا السباق موضعا، وتزود من دنياه لآخرته، ومن معاشه لمعاده، وحدثوا أنفسكم بما أعده الله للقائمين من الرضوان والنعيم المقيم. قال جل وعلا: )إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( [السجدة: 15-17].

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

اللهم تقبل منا الصيام والقيام، واجعلنا من عتقائك من النار.

اللهم اجعلنا في شهرنا هذا من المقبولين، واغفر لنا فيه يا رب العالمين.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنات، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.

اللهم تب علينا إتك أنت التواب الرحيم، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل يا ربنا وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، وأنت يا مؤذن أقم الصلاة.

 



([1]) أي :سريعة.

([2]) أخرجه مسلم، وقوله: يرفعه؛ أي: إلى رسول الله r.

([3]) أخرجه الترمذي، وابن ماجه واللفظ له، وصحح إسناده الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيقه على "سنن ابن ماجه" (2/360).

([4]) أخرجه الطبراني من حديث أنس بإسناد ضعيف، وصححه الحاكم، وله شاهد عند أبي داود الطيالسي من حديث جابر t، وليس فيه: "واعلم أن شرف المؤمن.. إلخ"، وإسناده ضعيف كذلك.

([5]) انظر: في ظلال القرآن (6/3742- ط الشروق) لسيد قطب.

([6]) أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان واللفظ له، وإسناده صحيح.

([7]) أخرجه الشيخان.

([8]) أخرجه مسلم.

([9]) اختلفت الروايات في عدد الركعات التي صُلِّي بها في زمن عمر t، وقد صح قيامهم بإحدى عشرة ركعة وإحدى وعشرين ركعة وثلاث وعشرين ركعة، ويحمل هذا على تعدد الأحوال كما ذهب إليه الإمام البيهقي في "السنن الكبرى"، والحافظ ابن حجر في "الفتح"، وهذا أولى من تضعيف الأخبار الواردة في الزيادة على إحدى عشرة ركعة، وقد أبعد النُّجعة وخالف الإجماع من ذهب إلى بدعية الزيادة على إحدى عشرة ركعة، كما ذهب إليه الشيخ الألباني رحمه الله ومن تبعه، ولا يعلم بهذا قائل من السلف، بل الإجماع منقول على خلافه. قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (2/ 102): "وقد أجمع العلماء على أنْ لا حد ولا شيء مقدرٌ في صلاة الليل، وأنها نافلة، فمن شاء أطال فيها القيام وقلت ركعاته، ومن شاء أكثر الركوع والسجود"، وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (3/82): ولا خلاف أنه ليس فى ذلك حدٌّ لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الفضائل والرغائب التى كلما زيد فيها زيد فى الأجر والفضل، وإنما الخلاف في فعل النبى r وما اختاره لنفسه"، ونقل الإجماع في هذا غير واحد من أهل العلم، والمقام عن نقل كلامهم، وإنما أطلت في هذه الحاشية لكثرة التشغيب والتشويش فيها من بعض طلبة العلم، والله الموفق.

([10]) السور التي تبلغ مائة آية أو تقاربها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين