قواعد مضيئة في إدارة الخلاف

 

لا إنكار في المختلف فيه (فقهي أو سياسي):

 

بما أن الله تعالى قد فاوت بين العقول في الفهم ، وجعل  معظم  النصوص في  الكتاب والسنة ظنية الدلالة بحيث تحتمل أكثر من  فهم  ، وبما أن اللغة العربية قد تجعل للكلمة الواحدة أكثر من معنى ، فإن الاختلاف هنا  سائغ  ومبرر ولا إنكار على من أخذ بأحد الرأيين أو الآراء مادام الرأي صادرا عن أهل الاختصاص ، هذا في الفقه ، وأما في السياسة فكذلك قد تتفاوت الاجتهادات في التحليل واتخاذ المواقف من الحدث  أو الحالة السياسية  ، وهنا  أيضا لابد  من التسامح مع الرأي الآخر وعدم الطعن عليه وإن خالف رأيي ورأيك ، مادام لم يخالف قواطع الشريعة ، وتبقى الضرورات لها أحكامها  . إن هذه القواعد تساعد على  التسامح وبقاء الألفة  بين  المختلفين .

 

قال النووي : ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب . وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم . وعلى المذهب الآخر المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا , والإثم مرفوع عنه , لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق ; فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر،  ( روضة الطالبين  ج10/219 )

 

وقال :  إن المختلف فيه لا إنكار فيه ، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق وذكر غيره من الشافعية في المسألة وجهين وذكر مسألة الإنكار على من كشف فخذه وأن فيه الوجهين .  وقد قال أحمد في رواية المروذي لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم . (الآداب الشرعية  ج 1   ص 188 .... )

 

وقال ابن قدامة في المغني : لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه فإنه لا إنكار على المجتهدات انتهى كلامه ( الآداب الشرعية  ج 1   ص 189)

 

قال ابن تيمية : مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه ، وإذا كان في المسألة قولان فان كان الانسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين والله أعلم ( الفتاوى ج 20 ص 207  )

 

وقال : وليس لأحد ان يحتج بقول أحد في مسائل النزاع وانما الحجة النص والاجماع ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية لا يحتج بها على الأدلة الشرعي، ( الفتاوى ج 26 ص 202 )

 

وقال سفيان الثوري :ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهي أحداً من إخواني أن يأخذ به . ( الفقيه والمتفقه للبغدادي  ج 2 ص 135 )

 

وقال ابن تيمية : وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة واخوة الدين نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع ( كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه  ج 24   ص 172 )

 

وقال : وأما الاختلاف في ( الأحكام ) فأكثر من أن ينضبط ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ولقد كان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان الا الخير وقد قال النبى لأصحابه يوم بنى قريظة ( لا يصلين أحد العصر إلا في بنى قريظة فأدركتهم العصر في الطريق فقال قوم لا نصلى الا في بنى قريظة وفاتتهم العصر وقال قوم لم يرد منا تأخير الصلاة فصلوا في الطريق فلم يعب واحدا من الطائفتين ( أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر) ( الفتاوى ج 24 ص 173)

 

ومن أسباب  التعصب للرأي القصور العلمي  بسبب  التربية على مذهب واحد ( مذهب ـ شيخ ـ حزب ـ  مدرسة فكرية ...) : 

 

قال ابن تيمية :   ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه ، وهو لا يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء ، لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول بحيث يجب الايمان به ، وبين ما قاله بعض العلماء ، ويتعسر أو يتعذر اقامة الحجة عليه ، ومن كان لا يفرق بين هذا وهذا لم يحسن ان يتكلم في العلم بكلام العلماء ، وانما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم مثل المحدث عن غيره والشاهد على غيره لا يكون حاكما ، والناقل المجرد يكون حاكيا لا مفتيا (مجموع الفتاوى  ج 26   ص 202) 

 

_ وقال الشاطبي في الموافقات  : إن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورا وإنكارا لمذهب غير مذهبه من غير إطلاع على مأخذه فيورث ذلك حزازة في الإعتقاد في الأئمة الذين أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في الدين واضطلاعهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه  ( ج/2 ص 391 )

هذا والله أعلم . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم .والحمد لله رب العالمين .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين