قنوع وطموح

كتب لي سائل: أليس مما يُعين على القعود والفتور، ما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث: (ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)، (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله، وما والاه وعالماً ومتعلماً)، (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى) وأمثال ذلك مما يبعث على الزهد ويعوق عن الطموح والحركة؟!

ثم مضى السائل يقول:

إن طبيعة الدِّين تُعلق الناس بالآخرة وتَصرف همَّهم عن الحياة لأنَّ الحياة في منطق الأتّقياء فترة مهينة لا يُعول على حال المرء بها ولا ضرورة لأن يأخذ المرء منها إلا زاد الراكب العَجل!.

 

وشيوع هذا المنطق في أمَّة، قضاء عليها بالتخلف حتماً وسط أمم تعبد الحياة، ولا ترى صلاحاً أو فساداً إلا فيها، ولا تُحس ثواباً أو عقاباً إلا بما تنال في مضمارها العتيد.

 

واستطرد السائل فذكر خشيته من أن تقصر النهضات الدينية في إسعاد الأمم الجانحة إليها، بل في حفظ كيانها من العوادي.

 

إنَّ هذه الشبهة ليست جديدة، وأحسبني قد ألقيت عليها ضياء كاشفاً في كتاباتي القديمة، ولكن هذا التساؤل الحائر سيبقى ما بقيت أفهام النهاس في الدين ظنوناً جائرة يعوزها اليقين الحاسم...

 

وأسارع إلى الإجابة عن الفقرة الأولى في هذا السؤال...

 

إن الأحاديث التي ذكرت هنا صحيحة كلها، والعيب ليس فيها ولا في غيرها من تعاليم! إنَّما العيب في تحريف الكلم عن مواضعه...

 

إذا كان الرضا بالقسمة ديناً فهل نحسب التطلع إلى ما فوقها زيغاً؟

 

إليك من سير الأنبياء ما يصرع هذه الشُبه ويدلك على أنَّ الطموح لا ينافي خِلال المتقين، بل قد يكون سرّ صلاحهم واصطفائهم...

 

ألم تسمع إلى سليمان عليه السلام وهو يطلب من الله ملكاً فذّاً لا يشبهه فيه أحد فيقول: [رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ] {ص:35}.

 

فكان من إجابة الله له:[هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ] {ص:39-40}.

 

إنَّ الله تعالى لم يقل له: قِف عند ما قُسم لك!!.

 

ألم تر إلى أيوب عليه الصلاة والسلام وكان يغتسل عرياناً فوقع عليه جراد من ذهب، فطارت واحدة، فجرى خلفها... فقال الله له: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عن هذا؟ فقال: بلى ولكن لا غنى لي عن بركتك...

 

لقد تشبع أيوب من مال الله على هذا النطاق الواسع، ولم يقل الله له: قِف عند ما قُسم لك.

 

ألم تنظر إلى يوسف الصديق وهو خارج من السجن، وكان بحَسْبه –وقد أتيحت له نعمة الحرية بعد اعتقال طويل – أن يحيا في كنفها، قانعاً وادعاً، فأبى لنفسه تلك المنزلة، وقال لعزيز مصر: [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] {يوسف:55}.

 

وامتن الله تعالى على يوسف إذ تسنم هذا المنصب العالي فقال: [وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ] {يوسف:56}.ولم يُعاتب الله سبحانه يوسف عليه السلام على هذا التطلع!!. فلم يقل له: قِف عند ما قُسم لك.

 

هؤلاء نفر من المسلمين الكبار لم يخدش الطموح ما عُرفوا به من تقوى ولا نزل بمكانتهم عند الله قيد أنملة...

 

إن الرضا بالقسمة قد يكون من الدين، وقد يكون من العجز الذي يزجر عنه الدين...

 

إذا سعى الرجل ضارباً في طول البلاد وعرضها، واستنفد قواه في استنباط الخير وتقريب الرزق فإذا به يدركه الكلال ويداه فارغتان، من قدر قاهر لا من كسل غالب، فهل ينتحر جزعاً، أم يطوى فؤاده على ضرب من السكينة والركون للأحداث؟

 

وإذا رأى غيره يؤتى الكثير ويواتيه النجاح وينتقل في مدارج الرقي فهل يدع سورات الضغينة تأكل قلبه لأنه فشل حيث أفلح غيره؟ أم يرضى عن الآخرين ويعدل في شعوره نحوهم؟!

 

وإذا ضنت موارد الحلال ودرت موارد الحرام، فهل يقال للمسلم: خذ ما أتيح لك، أم يقال له: استعف وتصبَّر؟!

 

إنَّ الإسلام يوجب الرضا بالقسمة يوم يكون هذا الشعور النبيل عزاء للمحروم وطمأنينة للمتخلف وحصانة من الجشع.

 

أما إذا قعد الرجل عن الكسب لإعالة نفسه، واعزاز شخصه، فرضاه بالمقسوم جريمة خُلقية...

 

وإذا أبطأ في توسيع ثروته لتربية أولاده وصيانة حاضرهم ومستقبلهم فرضاه بالمقسوم جريمة اجتماعية، وإذا ترك كيان أمته في الميادين العامَّة يتداعى بالخمول والطراوة، والقنوع بأدنى العيش فالرضا بالمقسوم جريمة سياسية.

 

إنَّ الرضا المحمود: عنوان عاطفة تعمل في نطاق محدود، ومن التزوير أن يؤخذ هذا العنون ليكون غطاء رذائل نبذها الإسلام وعدَّ أصحابها مرضى.

 

أما الدنيا التي لعنها الله وازدراها أولو الألباب: فهي دنيا الغرور والمفاسد والأهواء، لا دنيا العمل والغرس والكفاح، ومَنْ مِنَ الناس يحمد هذه الدنيا؟

 

لقد رأيناها تمزق الأرحام بين الإخوة الأشقاء وتغري بعضهم باغتيال البعض واخماد أنفاسه، استثاراً بعرض زائل.

 

لقد رأينا فتنتها تنج على الأبصار غشاوات حاجبة أو خادعة جعلت الأرض مذابة تسودها الوحشة والرهبة.

 

فأينما يمَّمت لا تلمح إلا ركض الوحوش تهيّجها الغرائز الوضعية، فلا حق ولا خير ولا أمن ولا وثام...

 

أرأيت ألوانها الزاهية وألحانها السابية؟ إنها تقبل عليك كالمائدة الحافلة الشهية وتنتهي بك – أو تنتهي معها – مثلما ينتهي الطعام في بطنك فضلات منتنة مزعجة.

 

قُبحت هذه الدنيا، ما تغر إلا الحمقى، وما يتمحض لها إلا المغفلون... فإذا رأى الله عزَّ وجل أنَّ خدعتها الكبرى أطاشت سواد الناس وأذهلتهم عن أنفسهم وعن ربهم، وعن أولاهم وآخرتهم، وبعثتهم مجانين يسعرون الحروب للباطل ويقيمون السلام للعبث.

 

فما الذي يرد لهؤلاء صوابهم إلا أنّ يقال لهم:[اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ] {الحديد:20}.

 

إنَّ هذه الآية وأشباهها تُعيد التوازن إلى النفوس التي اختلَّت فيها أوضاع الحقيقة.

 

وجماهير البشر عندما يحتبس نشاطهم بين أكوام الثرى من عالمهم الصغير، فلا يفكرون إلا في حدود المتاع العاجل، يحتاجون إلى نبي يصيح فيهم: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً ومتعلماً).

 

وعندما يتفاضل الناس بحظوظهم من الدنيا وحدها يقول: (أربع من كن فيه فلا عليه ما فاته من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة).

 

فهذه السهام التي يصوبها النبيون إلى الدنيا لا يبغون إلا أن يصيبوا بها ما علمت من شر وإثم وغدر.

 

على أنَّ ناساً نظروا إلى السهم المنطلق وعَموا عن الهدف الذاهب إليه فظنوا المرسلين يشتغلون بقتل الأحياء... وقالوا: إن رسالات السماء جاءت لتخريب الأرض... وكَذبوا...ما جاءت إلا لعمارتها، وجعلها جنة قبل الجنة، وانتفاعاً بهدى الله قبل السعادة بجواره المقيم في ديار النعيم...

 

فليس من حقيقة التقوى أن تكون محدود الأمل، ضيق الرجاء، فإن ذلك يدل على عجز في النفس، أكثر مما يدل على إيمان في القلب.

 

بل أولى بك أن تكون بعيد الهمة واسع الطموح تتطلع إلى آفاق لا نهاية لها ما دام فيك عرق ينبض.

 

وكل ما يطلب منك إزاء ذلك أن تهيء لكل شيء وسيلته، وتعد لكل أمر عدته : (ومن طلب عظيماً خاطر بعظيمته).

 

والرجل الكفء أهل لما يصل إليه من كرامة، وأهل لما يطلب لنفسه من منزلة، لقد طلب خالد بن الوليد رضي الله عنه من إخوانه قادة الفرق في معركة اليرموك، أن يكلوا إليه أمر القيادة العامة، وعرض ذلك في صراحة وفي كياسة وأجيب إلى طلبه.

 

على أن انفساح الأمل لا يقبل إلا إذا اقترن بالإخلاص لله وحده، وكان عمل الرجل إذا وضع في المؤخرة كعملة إذا وضع في المقدمة سواء بسواء...

 

وبهذه الروح كان مسلك خالد يوم أن ترك القيادة وعاد جندياً...

 

إن الإسلام إنما يبغض الأطماع والحرص البارد على المظاهر الكاذبة واصطناع الدسائس للظفر بأبهة الدنيا لا بخدمة الدين، فكن طموحاً واحذر الطمع.

إن الدين خير كله، وما تصلح الحياة إلا بتعاليمه، بيد أن علينا إقصاء المتأكلين به عن ساحته، وتمكين أولي الأيدي والإبصار وحدهم من فقهه وعرضه...

 

وأحسبني في كثير من كتبي قد أشبعت هذا الموضوع بحثاً، وأودُّ أن أقول للسائل المستريب: إنَّ نهضة الإسلام في عصرنا هذا تعتمد على أصول مكينة من الادراك المسدد والعاطفة الحارة، وإن المسلمين أحوج الناس في هذه الأيام إلى الانعطاف لدينهم والاستمساك به...

 

وربما أخذ على الدعوة الإسلامية في هذا العصر ما يعرو جبهتها من تقطع مرده في نظري اختلاط الدعاة بالأدعياء، والنائحة الثكلى بالنائحة المستأجرة.

 

لكن هذه العلة لن تطول، فإن الحق آخر الأمر ينفرد ويخلد: [وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {يوسف:21}.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

 

المصدر: مجلة منبر الاسلام السنة السادسة عشرة، جمادى الأولى 1378 العدد 5

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين