قطيعة الرحم قَطْعٌ عن الله وعن الدنيا


أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مُقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعةِ، قَالَ: نَعَمْ، أمَا تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ لَكِ، ثُمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 22 - 24]! صحيح البخاري، رقم الحديث: (5987)، (3/135)، صحيح مسلم، رقم الحديث: (6682)، (8/7).

 

إنها رسالة صَاعِقَةٌ فَاجِعَةٌ، قَامِعَةٌ رَادِعَةٌ !

إنَّ من قَطَعَ رَحِمَه؛ قَطَعَهُ ربُّه؛ ذلك أنه مُفْسِدٌ في الأرض، مَلعُونٌ من الربِّ، أَصَمَّ اللهُ أُذُنَه عن سماع الحق، فلا يَنتفع بِعَظة، ولا يتأثر بِتَذكرةٍ، كَدَرسٍ أو خُطْبَة أو محاضرة، وأعمى الله بَصَره عن رؤية الهدى، فلا يَهتدي بِبَصيرة، خَبيثَ السمت والسريرة، مَحرومٌ من السعادة، واللذة في العبادة، فإن صَلَّى فَبِلَا خُشوع، وإن تَهَجَّد فَبِلَا دُموع، وإن تَلا كتاب ربه؛ فكأن قِفْلًا على قَلْبِه، فَهُو عربي التلاوة، أعجمي الفَهم، فاللهم سلم سلِّم !

وإنَّ من كان مقطوعًا عن ربه، فلا ريب في انتكاسة قَلْبِه، وفَساد أمره، وضياع عُمُرِه، وَنَزْعِ البَركة من مَالِه، فَوَقْتُهُ يمضِي بِلا إنجاز، ومن المال قَليلًا ما حَاز، فثبت عند العقلاء وذوي الألباب أن الخيرَ كُلًَّ الخير، والفَضل كل الفضل في دَيمومة صِلَةِ الرَّحِم، وألا تقطع ألبتة !

 

وهاكَ أنموذجين متباينين، اقرأهما وسجل الفرق:

أولهما: قرأتُ يومًا أن شبابًا مرض أبوهُم، وبعد عرضه على الأطباء أمروا بِعِلاجِه في دولةٍ أوروبية، وشاء الله تعالى أن يَموت هناك، فلما أراد أبناؤه أن يستقدمُوه، علموا أن تكلفة نقله تزيد عن [10000$]، فاتفقوا أن يدفنوه هناك، وإذا بتكلفة دفنِهِ تفوقُ المبلغ الأول، فاجتمعوا في مناقشة المصيبة، وبعد ساعات من التفكير والخيبة؛ قرروا حَرْقَ جثةِ أبيهِم؛ لئلا يَتَكَبَّدُوا نَفَقَات الدَّفِن !

والثاني: صَاحِبُهُ أعظم الأمة قدرًا، وأمجدها فضلًا، وأكثرها صلة لرحمه، إنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإليكَ أُنموذجًا من سيرته، مع أُخْتٍ له، ودونك البيان:

          إنها أخته من الرضاعة " الشيماء بنت الحارث "، أُمُّها حليمة السعدية مُرضِعَةُ نبينا صلى الله عليه وسلم، كانت تُدَاعب النبي صلى الله عليه وسلم في طفولته، وَتُغَنِّيهِ بِرجز من شعرها قائلةً:

يا ربنا أبـق لنـا محمـدًا       ثم أراه سيـدًا مسـودًا

وأكبت أعاديه معًا والحسدا       وأعطه عزًا يدوم أبـدًا

فكان أبو عروة الأزدي إذا أنشد هذا يقول: ما أحسن ما أجاب الله دعاءها !

          فلما ظهر الإسلام أغارت خيول المسلمين على هوازن؛ فأسروها فيمن أخذوا من السَّبِي، فقالت: أنا أُخْتُ صاحبكم ! وقد مَرَّت عُقودٌ مديدةٌ دون أن تراه أو يراها !

          فقدموا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهت إليه قال الصحابة من حوله: من أنتِ؟ فقالت: إني الشيماء بنت الحارث، أرضعتني أمي حليمة السعدية مرضعة أخي محمد صلى الله عليه وسلم، فأنا أخته من الرضاعة !

          فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: وما علامة ذلك؟ فَذَكَّرتْهُ بِعَلامَةٍ فَعَرفَهَا، وَتَذَكَّرَ أمرها، وما أمره الله به من صلة الرحم، والإحسان إليها بعد طول غيابٍ، فأقبلَ عليهَا فَرِحًا وَمُرَحِّبًا بها، وَبَسَط لها رداءه، ثم أجلسَهَا عليه، وَدَمَعَت عيناه صلى الله عليه وسلم !

          ثم سألها عن أحوالِهَا، واطمأن على شُؤونها، ثم خَيَّرَهَا قائلًا لها: " إن أحببت فأقيمي مُكَرَّمَةً محببة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك أوصلتك " ! فقالت: بل أرجع إلى قومي، ثم أعطاها نَعَمًا وَشِيَاهًا وثلاثة من العبيد وجارية، وأوصلها إلى قومها، فأسلمت لله تعالى، ثم عادت إليه! ابن حجر / الإصابة في تمييز الصحابة (7/733)، تراجم شعراء الموسوعة الشعرية (1/716).

         

إنه فارس مدرسة النبوة !:

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر م أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار، يَتَرَوَّحُ عليه إذا ملَّ ركوب الراحلة، وَعِمَامة يَشُدُّ بِهَا رَأسَه..

فبينا هو يومًا على ذلك الحمار؛ إذ مرَّ به أعرابي فقال: ألست ابن فلان بن فلان؟! قال: بلى، فأعطاه الحمار، وقال له: اركب هذا، ثم أعطاه العمامة، وقال له: اشدد بها رأسك !

فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك، أعطيت هذا الأعرابي حمارًا كنت تروح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك ! فرد عليهم بقوله: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: " إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ "، وإن أباه كان صديقا لعمر! صحيح مسلم، رقم الحديث: (6679)، (8/6).

 

إن عبدَ الله بن عمر م كان مَعروفًا بِصَلَةِ رَحِمِه، فقد يكون لهذا السبب –والله أعلم- أن الله أطالَ عُمُرَه، فقد كان آخرَ الصحابة موتًا بمكة، سنة 73 هـ، وقيل: 74 هـ، وذلك بعد أن منَّ الله عليه بِشُهُودِ الحَج، فاضت رُوحُهُ إلى بارئها، عن عمر [84 سنة]، وَدُفِنَ بالمُحصَّب !

 

صلة الرحم ورَثَّتْهُ ذرية أجرها في رصيد حسناته:

ذهب أحد الإخوة يصل أخته، فلما تَفَقَّدَ أمرَهَا، وسألها عن حالها، لاحظ أن خلافًا حادًا قد أدخل الحَزَنَ والضيق بِهَا وزوجِهَا وأولادها، والخلافُ قائم على مبلغ مالي قدره [300 ليرة] تُدْفَعُ شهريًا، فقال: أنا أدفع المبلغ ولا عَلَيكُم !

فصار يدفعه كل شهر، وبعد ستة أشهرٍ بلغت محبته في قلوبهم كل مبلغ، فطلبت منه أخته أن يَعْقِدَ درسًا أسبوعيًا يعلم فيه أبناءها وبناتها القِيَمَ والأخلاق، فوافق صاحبُنَا دون تردد، وقال: صِرْتُ أُحَضِّر الدرس بِنَفسِي، وَأُزَيِّنُهُ بالآية والحديث والقصة، رغم أنني مهندس لا علاقة لي بالتدريس، وَكُنَّا نلتقي عصر كل جمعة في بيت أختي، لمدة ساعةٍ من الزمان !

 

وشاء الله تعالى أن يكون الدرس أساسًا لمجدٍ إسلاميٍّ مباركٍ، فقد أحبت العائلة دينَ ربها، وقوي التزامها، حتى أصبحت البناتُ كلهن صالحات، وَجُلُّهُنَّ مُتَحَجِّبَات، وكتَبَ الله لهن أزواجًا أطهارًا، تُقاةً أَبْرارًا، وبدأت سلسلة ذهبية من الأصهار، تُؤَسس لِذُريةٍ طيبة، تَنْصُرُ دين ربها، وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم! [محمد راتب النابلسي / محاضرة بعنوان: صلة الرحم].

 

إن صلة الرحم آوت لصاحبنا عوائل متشابكة، وَذُرِّيَّاتٍ مباركة؛ لِتَكُون كلها في رصيد حسناته، فأي زيادة وبركة في العمر هذه؟! فطوبى لمن وصله الله، فوفقه لِصِلَةِ أرحامه، والحسرة كل الحسرة لمن حُرِمَ هذا الشرف، وَخُذِلَ عن هذا الفضل، فلم يَنَل منه شيئًا، عياذًا بالله من الحرمان والخذلان !

 

جاء رجلٌ مُجاهِدٌ إلى الإمام أحمد، فقال له: يا إمام، إنَّ لي قرابة ببلد المراغة، فاخترْ لي، أأرجع إلى حراسة الثغور، أو أذهب إلى أقاربي فَأُسَلِّم عليهم؟! فقال الإمام أحمد: استخِر الله، واذهب فسلّم عليهم !

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين