قطعنا عليك كلَّ سبيل أيها اللعين

كان إبليس يتجول هنا وهناك، يبحث عن صيدٍ جديد، ورزقٍ حرام، وأذى ينشره بين الناس، وفتنة يوقدها، حين انتهى إلى منطقة نائية، ذلك أنه آثر الابتعاد عن الأمكنة التي يُدوّي فيها الأذان، مؤمِّلاً أن يجد بعيداً عن مداه فرصةً مواتية للشر والإفساد. وبينما كان غارقاً في همومه يتراوح بين اليأسِ والأمل، يرسم الخطط ويُحْكِمُ التدبير، ويَقْدَحُ زناد فكره، انتهى إلى مجموعة من الناس في مُنْقَطَعٍ من العمران شكَّلت قافلة تقصد مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.

تشاءم إبليس، وغضب، وطار الشررُ من عينيه، وهَمَّ بالهروب من هذا المكان، لكنه شجَّعَ نفسَه، وقوَّى من عزيمته، واقترب من القوم يتفحَّصهم، ويتعرف إلى حالهم على أمل أن يجدَ أسرعَ الطرق، وأفتكَ المنافذ لإيقاع الشر والفتن فيما بينهم. وإذ دنا منهم؛ وجدَ القافلة مكونة من أجناسٍ شتّى، وأقوامٍ متباينين، يجمعهم أنهم مسلمون.

كان في القافلةِ بعض الحجاج الأتراك، الطوالِ الأجسام، بنيتُهم قوية شديدةُ الأسر، وعيونهم ملوَّنةٌ هادئة النظرة، ووجوههم يظهر عليها الحزمُ والقوة إلى جانب الطيب والبساطة.

وكان هناك بعض الحجاج الأكراد، بلباسهم التقليدي المعروف، ووجوههم القوية التي تدل على التحدي والإباء، وعمائمهم الكبيرة التي لاثوها على رؤوسهم.

وكان هناك بعض الحجاج الهنود، أجسامهم صغيرة دقيقة، يبدو عليهم أنهم لطفاء وادعون، يرتدون لباسهم الهندي المميَّز، ويجلسون بعضهم بجانب بعض في سكون وهدوء.

والتفت إبليس إلى يمين القافلة فشاهدَ مجموعة من حجاج إندونيسيا، مجموعة كبيرةً يسودها سكونٌ غريب، وجوهُهم تنطق بالودِّ والبِشر، والفرحة الغامرة العميقة، وسعادةِ مَنْ وُفِّقَ لإدراك الآمال.

رجالهم أشبهُ بالعصافير الأنيسة، ونساؤهم كالحمام الهادئ الوادع.. كانوا جميعاً يجلسون على شكل نصف دائرة في مواجهة رجل منهم يشرح لهم أركانَ الحج وآدابه، ويجيبُ على أسئلتهم.

والتفت إبليس هنا وهناك، يمنةً ويسرة، في مقدمة القافلة وفي آخرها، فوجد آخرين من الأفغان والشام، ومن إيران وباكستان، وقوماً من أوربا وأمريكا، وآخرين من أعماق أفريقيا الخضراء. ولَحَظَ أنهم ليسوا مختلفين جنساً فحسب، بل الألوانُ تختلف، وكذلك اللغاتُ والملابس، والعادات والأشكال، والبلدانُ والأصقاع، لكنهم كلَّهم يجمعهم انتسابهُم إلى الإسلامِ العظيم، دين الله الخالد الراشد.

لم يجد إبليس في هذه القافلة مَنْ يفتخر بأمٍّ أو أب، بجنسٍ أو عشيرة، بلغةٍ أو ملبس، بلونٍ أو أرض، لقد ذهبت نخوة الجاهلية وتعظُّمها بالآباء، وزالت الفوارقُ الزائفة المصطنعة، وسقطت الحواجز التي تمزق الناسَ شيعاً تتناحر، وطوائفَ تقتتل، وبرزت معاني الأخوةِ الصادقة، والمساواةِ الرشيدة، والحب المتبادل، والود العميق، والإخاء الصادق، لقد تطهرَ الجميعُ بالإسلام، وتطهَّروا بنورِ القرآن، ربطوا حياتهم جميعاً برضوان الله جل جلاله.

هؤلاء المسلمون المختلفون داراً، المتباعدون موطناً، المتباينون في كل شيء، إلا في العقيدةِ الصحيحة الواحدة، في هذه القافلة العجيبة الغريبة، وحَّدَ بينهم شعارُ: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، وشدَّ أواصرهم إيمانُهم بالقرآن الكريم، كتاباً وحيداً يؤمنون به، وجمعَ بينهم اتجاهُهم إلى قِبْلةٍ واحدة هي "الكعبة المشرفة"، وانتماؤهم إلى الأمة الإسلامية العظيمة، واقتفاؤهم سنة محمد صلى الله عليه وسلم.

لقد اعتقدوا جميعاً أنهم لآدم، وآدمُ من تراب، وآمنوا حتى أعمق أعماقهم، أنه لا فضلَ لعربي على أعجمي، ولا لأبيضَ على أسود، ولا لغنيٍّ على فقير إلا بالتقوى، ذلك أن القرآن الكريم علَّمهم ذلك في قول الله عز وجل، الكريم الصادق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، فسقطت بذلك الحواجز الآثمة الكاذبة، والفوارق الباغية الخاطئة التي سببت للناس في كل زمان ومكان كثيراً من المآسي والأحزان.

أرهف إبليس مسمعَه الشرير، وأصاخَ أذنيه الطويلتين الغائرتين لحديثِ الناس في هذه القافلة المباركة، فما سمعَ هُجْراً ولا سوءاً ولا كذباً ولا بهتاناً، ولا قولةَ شرٍّ يستطيع توسيعها وتأجيجَ نارها، فأحسَّ بالعجزِ التام حينَ يستيقظُ الإيمان في النفوس، والشللِ القاتلِ إذ يتدفقُ الخيرُ في الحنايا، فأدركه اليأسُ والقنوط، والعجزُ والكلال، والقَهْرُ والصَّغار، والقَماءةُ والهزيمة، وطفق يبكي ويبكي حزناً على دولة الشر ألا تجدَ مَوْضِعَ قدمٍ واحدٍة في هذه القافلةِ الربانيةِ المباركة.

*****

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين