قطرات من

 

(للإمام ابن الجوزي كتاب عنوانه "منتهى المشتهى"، ولم نقفْ على نسخة له، وقد وصل إلينا كتابٌ لأحد العلماء هذَّب فيه "منتهى المشتهى" وشذّبه -كما قال-، وسمّاه "ماء الحياة"، ويقع في أربعين فصلًا[1].

وهذه "قطرات" منه، إلى أنْ يسهل اللهُ طباعته).

♦ ♦ ♦

 

♦ مَنْ عرَفَ تصرُّفَ الأيام لم يغفلْ عن الاستعداد.

إنَّ قُرْب المنيّة ليَضحكُ مِنْ بُعْد الأمنية.

ما جرى عبدٌ في عنانِ أملهِ إلا عثرَ.

♦ ♦ ♦

 

♦ كان أملُهم أقصرَ مِنْ يوم السرور، ونومُهم أعسرَ مِنْ وفاء بني الأيام.

السهرُ عندهم أحلى مِنْ رقدة الفجر.

أخبارُهم أرقُّ مِنْ نسيم السحر.

♦ ♦ ♦

 

♦ أوقدوا دِهَان الأذهان في ليلِ الفكرِ تُبصروا.

وصابروا سِنِي الجَدْبِ لعامِ الخِصبِ تعصِروا.

♦ ♦ ♦

 

♦ مَنْ نام على فراشِ الكسلِ سالَ به سيلُ التمادي إلى وادي الأسف.

♦ ♦ ♦

 

♦ عيونُ الدنيا بابلية

كم تفتحُ بابَ بلية!

كم أفْرَدتْ مَنْ أرْفَدتْ.

كم أخْمَدتْ مَنْ أخْدَمتْ.

كم فلَّلتْ مَنْ ألَّفتْ.

كم أفْقرَتْ مَنْ أرْفَقتْ.

كم فارَقَتْ مَنْ رافَقَتْ.

كم قطَعَتْ مَنْ أقطَعَتْ!

♦ ♦ ♦

 

♦ ما وصلَ القومُ المنزل إلا بعد طولِ السُّرى.

ما نالوا حلاوةَ الراحة إلا بعد مرارة التعب.

♦ ♦ ♦

 

♦ مَنْ طلبَ الأنفسَ هجرَ الأذل[2].

مَن اهتمَّ بالجوهر أعرضَ عن العرَض.

يا بيضاءُ يا صفراءُ غُرِّي غيري.

♦ ♦ ♦

 

♦ يا مطروداً عن صحبة الصالحين، امشِ في أعراض الرَّكب، وناشدْ سائقَ القوم لعله يتوقف لك.

♦ ♦ ♦

 

♦ الدنيا والشيطان خارجيان خارجان عنك.

والنفس والهوى عدوان مُباطنان.

ومِنْ أدبِ الجهاد (قاتلوا الذين يلونكم).

♦ ♦ ♦

 

♦ يا هذا:

دبِّرْ دينك كما تدبِّرُ دنياك.

لو علقَ شرَكٌ بثوبك رجعتَ إلى وراء لتخلصه.

هذا مسمارُ الإصْرار قد تشبثَ بقلبك، فلو رجعتَ إلى الندم خطوتين تخلصتَ.

♦ ♦ ♦

 

♦ يا عبد السوء ما تساوي قدرَ قوتِك.

لا كانت دابةٌ لا تعملُ بعلفها.

♦ ♦ ♦

 

♦ مَنْ ركبَ ظهرَ التفريط نزلَ به دارَ الندامة.

♦ ♦ ♦

 

♦ يا صبيانَ التوبة:

"هلالُ" أعمالكم ضئيلٌ، فدوموا على الإخلاص حتى يصيرَ "بدراً".

♦ ♦ ♦

 

♦ كأنكم بالموتِ قد خطَف، ثم عادَ إلى الباقي وعطَف.

انتبهْ لنفسِك يا ابن النُّطف، فقد حاذى الرامي الهدَف.

إلامَ سَيْرٌ في سرَفٍ؟ ليت هذا العزمَ قد وقَف.

يا مَنْ باع الدُّرَ واشترى الخزَف:

ابسطْ بساطَ الحُزْن على رماد الأسف.

عليكَ حافظٌ وضابط.

ليس بناسٍ وغالط.

يكتبُ الألفاظَ السواقط.

♦ ♦ ♦

 

♦ لما رأى المتيقِّظون سطوة الدنيا بأهلها، وخداعَ الأمل لأربابه، لجأوا إلى حصن الزهد، كما يأوي الصيدُ المذعورُ إلى الحرَم.

لاح لهم حبُّ المُشتهى، فلما قنصه المتناولُ بان للبصائر خيطُ الفخ، فطاروا بأجنحة الورع، وصوتوا في الرحيل الثاني: ? يا ليت قومي يعلمون ?.

إنْ هممتَ بلقائهم فبادِر.

وإنْ عزمتَ على وفاقهم فثابِر.

واعلمْ أنه لا يُدرِكُ المفاخرْ

مَنْ رضيَ بالصف الآخر.

♦ ♦ ♦

 

♦ إذا طلعَ نجمُ الهمّة في ظلامِ ليلِ البطالة، ثم ردفه قمرُ العزيمة (أشرقت الأرض بنور ربها).

♦ ♦ ♦

 

♦ المحنةُ العظمى موافقةُ الهوى، فيا أكثر مَنْ في هذه الهُوّة هوى.

♦ ♦ ♦

 

♦ بغايا الشهوات مُتبرِّجات في أسواقِ الهوى، يتشبثنَ بأذيال الطباع، فمَنْ خرَجَ عن ديار العُزلة خاطرَ بدينه.

♦ ♦ ♦

 

♦ إخواني

كم مِنْ حريصٍ جمَعَ المالَ جَمْعَ الثريا فرَّقَته الأقدارُ تفريقَ بنات نعش.

أيها اللبيب:

أتنفق الجليلَ الباقي في طلبِ الرذيل الفاني؟

ويحك:

إنَّ الهوى مِرْعادٌ ومِبراقٌ ولا مطر.

الدنيا لا تساوي نقلَ أقدامكم في طلبها.

أرأيتَ غزالًا يعدو خلفَ كلب؟!

الدنيا معبرٌ والآخرةُ وطن، والأوطارُ في الأوطان.

 

[1] ومما يُؤسف عليه أن النسخة خلت من خمسة فصول، هي (5، 6، 7، 8، 9)، وقسم من الفصل الرابع.

[2] في "المدهش" (1 /273): الألذ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين