قطاع الطريق

بينما نكون في الطريق سائرين فإننا سنجد من يترصد طريقنا و يتابع حركاتنا و يرقب سكناتنا ليقطعوا الطريق علينا و يصدوا الناس عن المسير معنا في الطريق و هؤلاء الذين قال فيهم الله تعالى :

( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ? أُولَ?ئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ) إبراهيم 3.

و هؤلاء ما يقطعون الطريق الحق, إلا أنهم علموا أن الوصول لنهايته, هو نهاية مصالحهم الدنيوية, و أهوائهم, و سلطانهم الظالم. و هذا ما حصل مع النبي صلى الله عليه و سلم حين دعا قومه للتوحيد, فعلموا أن التوحيد هذا, سيسلبهم جاههم و سلطانهم, و يجعله لله تعالى, و ليس لأهوائهم, و هؤلاء قال فيهم الله تعالى :

( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) القصص 50.

و من الآيتين السابقتين, نرى أن قاطعي الطريق, و الصادين عن سبيل الله, يشتركون بصفة واحدة, و هي اتباع الأهواء البعيدة عن الحق, و حب الدنيا على الآخرة, و هؤلاء وصفهم الله تعالى بأنهم ضلوا الطريق فسلكوا طريقاً غير الطريق, و سبيلاً غير السبيل.

و هؤلاء الذين يصدون الناس عن اتباع الحق, و يعبثون بالطريق إلى الله يريدون إطفاء نوره, باغين, و عادين على الله و رسوله, و على السائرين في الطريق, هؤلاء من نسميهم قطاع الطريق, و لم نقل قطاع الطرق, فالطريق واحد, و السبيل جلي, و هم لا يقطعون إلا طريقاً واحداً, هو الطريق إلى الله, الطريق إلى رفعة الأمة, و ريادتها بالإسلام.

 

و لكن هيهات أن يستطيعوا, فالله وعدهم الخذلان, و وعدنا النصر, حيث يقول الله تعالى :

( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) التوبة 23.
( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ? وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ? وَكَفَى? بِرَبِّكَ وَكِيلًا ) الإسراء 63-64.
( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ? وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ? وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) البقرة 268.
( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ? وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ? وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) آل عمران 160.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) محمد 7.

و هؤلاء قطاع الطريق, إنما يعيثون في الأرض فساداً, و يخادعون الله, و رسوله و ما يخدعون إلا أنفسهم, يعملون على خداع الناس بالكلام المعسول, و الشعارات الكبيرة, و الدعوات المشبوهة, التي تخفي ورائها ما تخفي من المصائب, و المؤامرات على هذه الأمة, و هؤلاء من يصفهم الله تعالى بقوله :

 

( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ) البقرة 204 – 205.
( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) البقرة 9.
( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) آل عمران 118.

 

قطاع الطريق ينفقون أموالهم, و يستخدمون كل ما يستطيعون من جاه, و سلطة, و إعلام و غيره, ليصدوا عن سبيل الله, و لن يستطيعوا, فالله تعالى وعدهم بالخزي, و الحسرة, و لكن الله إنما يمد لهم, ليميز بين الخبيث, و الطيب, و ليحيا من حيي عن بينة, و يهلك من هلك عن بينة, إن الله يريد أخذهم بعد أن يقيم الحجة عليهم لئلا يكون للناس على الله حجة, حيث يقول الله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) الأنفال 36-37.
(وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) الأنفال 42.

قطاع الطريق, الذين يعبثون بهذا الطريق, و يصدون الناس أن يسيروا في هذا الطريق, إنما يفسدون في الأرض أيما إفساد, و إنما يعلنونها حرباً على الله و الرسول, و المؤمنين جميعاً, و هؤلاء أنفسهم من أعلن الله حربه عليهم, و أمرنا بمقاتلتهم, و هؤلاء من حاربهم رسول الله صلى الله عليه و سلم, وخاض المعارك ضدهم, ليس لأنهم لم يتبعوه, و ليس لأنهم لم يسلموا, و إنما بما قدمت أيديهم لقطع طريق الدعوة إلى الله, و إظهار الحق للناس, و منع الناس أن تؤمن, و تتبع الهدى, و تعرف دينها, و تعرف غاية وجودها, و خالقها, و ترتقي بمجتمعاتها بالإسلام, حيث يقول الله تعالى :

( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ) البقرة 193.
( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى? لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ? فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) الأنفال 39.
( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) المائدة 33. 

 

إن الله لم يطلب منا أن نفرض عليهم الدين, و نجبرهم على الإسلام, فالله غني عن العباد, و لا يقبل المنة من أحد في أن يؤمن, إنما هو من يمن على الناس أن هداهم للإيمان, و لكن طلب منا أن نبين للناس الحق, و نبين لهم الطريق, و نجاهد في سبيل ذلك بأموالنا و أنفسنا, فإن شاؤوا ساروا و اتبعوا الحق, و إن لم يقبلوا فهذا حق لهم, على أن لا يقطعوا الطريق, و لا يمنعوا من رغب بالمسير أن يسير في هذا السبيل, حيث يقول الله تعالى :

( قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) الحجرات 16 – 17.
( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) الإسراء 15.
( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ? فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ? إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ? وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ? بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) الكهف 29.
( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) البقرة 256.

و لهم الحق علينا أن نعاملهم بما أمرنا الله عز و جل بالبر و القسط, ما لم يقطعوا طريقنا, و يصدوا الناس عن السبيل, و ما لم يقاتلونا أننا آمنا بالحق و اتبعنا سبيله, حيث يقول الله تعالى :

( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى? إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ? وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَ?ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) الممتحنة 8 – 9.
( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ) التوبة 6.

 

لكن إن قتال هؤلاء لا يكون بشكل فردي و لا عشوائي أبداً, بل لابد و أن يكون هناك شيء اسمه مجتمع إسلامي تتمثل فيه العقيدة, متكامل, متكافل, و متفاهم في داخله و له قيادة و هيكيلية منتظمة تستطيع تمثيل هذا المجتمع. 

وعندها يمكن إتخاذ قرارات بإعلان الحرب على من يعادي هذا الدين, و على من يعلن الحرب على الله و الرسول, و على المؤمنين, و يريد صد الناس عن الحق, و إبعادهم عن سواء السبيل.

 

ولنا في مسيرة الدعوة الإسلامية في عهد النبوة خير دليل على كلامنا, فلم يعلن الرسول صلى الله عليه و سلم, حرباً على مجتمع الجاهلية الذي حارب الإسلام, و حارب الدعوة إلى الإسلام, و عمل على صد كل من يريد اتباع هذا السبيل, حتى أذن الله تعالى له بالحرب, حيث يقول الله تعالى :

( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ? وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) الحج 39.

 

و هذه كانت أول آية يشرع الله بها الجهاد للمسلمين, و يأذن لهم بالقتال, أنهم ظلموا و أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن قالوا ربنا الله, و اتبعوا سبيل الرشاد.

إن الله تعالى لم يشرع الجهاد و القتال للمسلمين و هم في مكة رغم أنهم كانوا يعذبون و يشردون بعيداً عن أوطانهم و لم يكن المجتمع الإسلامي قد تشكل بعد كمجتمع عضوي حركي منظم تتمثل العقيدة الإسلامية فيه و لم تكن الصفوف قد اجتمعت و لم تكن أركان المجتمع الإسلامي قد اكتملت و لكن بمجرد أن أصبح للمسلمين مجتمع قائم بذاته إقتصادياً, و بشرياً, و عسكرياً, و جغرافياً, في المدينة المنورة, كانت اللحظة المناسبة التي أمر الله تعالى المسلمين بأنهم ظلموا, و أن من حقهم اليوم رد الظلم عن أنفسهم, و الجهاد في سبيل الله, و إن الله الذي لا نشك في حكمته لو لم يعلم أن هذا هو الظرف الأمثل لما أذن لهم.

إذاً إن الشرط اللازم و غير الكافي لإعلان الحرب على مجتمع الكفر و الشرك الذي يعترض الطريق إلى الحق هو قيام مجتمع إسلامي متكامل الأركان (إقتصادياً – بشرياً – عسكرياً – جغرافياً – قيادة) تتمثل فيه العقيدة الإسلامية.

و لكن في الأوضاع الراهنة التي نعيشها فإن قيام مجتمع إسلامي في دولة قائمة يعتبر بالمفاهيم السائدة دولة داخل الدولة, و لكن نقول أنه عندما أقام النبي صلى الله عليه و سلم مجتمعه الإسلامي ضمن المدينة المنورة قام هذا المجتمع ضمن مجتمع قائم أساساً و له قيمه و قوانينه و قياداته و أرضه و نظامه.

 

حيث أتى الرسول صلى الله عليه و سلم و المهاجرين معه إلى المدينة, فوجدوا من يناصرهم من أهل المدينة و هم الأنصار, و استطاع بذلك تأمين المجتمع بشرياً و جغرافياً و قيادة, فبدأ الإعداد لإستكمال بناء المجتمع الإسلامي المنشود, فأمر ببناء المسجد برمزيته العلمية, و السياسية, و الدينية, و أمر بإنشاء سوق للمسلمين, و أسس جيشاً إسلامياً.

و بذلك استطاع استكمال أركان المجتمع العضوي الحركي للعقيدة الإسلامية, و كل ذلك كان مدعوماً, و مؤيداً بتعاليم سماوية من الله عز و جل.

فاستطاع بذلك بناء التحالفات مع المجتمعات القائمة من غير المسلمين, و تم صياغتها على شكل وثيقة, دعيت بوثيقة المدينة, و التي تعتبر أول دستور في الإسلام تم التعبير فيه عن الوطن بمفهومه الشامل, التعددي, و بما يحفظ للدعوة قوتها, و استمراريتها, و في نفس الوقت يضمن مصالح المجتمعات الأخرى التي تشاركه الوطن في أرقى صورة للمواطنة, و قبول الآخر.

 

ولكن توازنات القوى اليوم, لا تسمح بأن يقوم المجتمع المسلم بإعلان الحرب على قطاع الطريق, و الصادين عن السبيل, فاليوم هؤلاء ربما يكونون متمثلين في حكومات, و أجهزة إعلامية ضخمة, و أجهزة أمنية غادرة, و قوة عسكرية مجهزة بأحدث العتاد, الذي يحتاج الكثير لمجاراته من أموال, و مساحات واسعة, و علاقات دولية, و غير ذلك من تعقيدات الأمور. 

 

بالتالي, لابد من البحث عن بدائل, و خيارات أخرى تتناسب و فقه الواقع,  تتيح لهذا المجتمع المسلم صيانة نفسه, و حماية كيانه, و دعم فكرته و نشرها. 

و لابد من إيجاد وسائل جديدة تتوافق و فقه الواقع, غير الحرب العسكرية المباشرة للرد على قطاع الطريق, و قطع دابرهم, و رد ظلمهم, و منع أذاهم, لفتح الطريق أمام الدعوة, و أمام السائرين, لإكمال الطريق, و من أجل تهيئة الظروف المناسبة لمن أراد أن يسمع الحق, و يسلك الطريق. 

 

لابد لهذا المجتمع المسلم, إن توفرت أسباب قيامه, أن يبحث الوسائل, و الآليات, التي تجعل منه قوة تستطيع حراسة الطريق, و من يسير فيه, و من يريد أن يستنير, و يعلم الحقيقة.

لابد لهذا المجتمع, من الإعداد الجيد, و تأمين أسباب القوة, من علم, و إقتصاد, و إعلام, و إدارة, و تنظيم, لهذا الغرض. حيث يقول الله تعالى :

( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ? وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ) الأنفال 60.

و يستطيع بهذه القوة, أن يتفاوض, و يصل لصياغة تفاهمات, تحميه في الطريق, و تسمح له في السير ضمن ظروف مناسبة, بعيداً عن المنغصات, و العراقيل التي تشغله عن الهدف الكبير الذي يسير إليه, و تسمح في نفس الوقت لمن أراد أن ينضم لقافلة السائرين, بالإنضمام, و السير في ذات الطريق.

 

في ذات الوقت فإن هذا المجتمع لابد له, و أن يتواصل مع المجتمع الآخر, بما يحقق مصلحة الوطن ككل, على كامل الأرض, و يحفظ للمجتمع المسلم خصوصيته, و يسمح له بالحرية في شعائره و شرائعه.

و لنا في حياة المجتمع المسلم الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه و سلم في المدينة المنورة, خير دليل على كلامنا.

 فقد تعامل هذا المجتمع مع المجتمعات القائمة على أرض الوطن, بما يضمن لكل مجتمع حقوقه, و خصوصيته, في شعائره, و شرائعه, و بما يحفظ وحدة التراب الذي تقوم عليه هذه المجتمعات جميعاً.

و تم صياغة بنود وثيقة المدينة, في هذا الخصوص, و التي كانت بمثابة عقد مجتمعي بين المجتمعات القائمة على تراب المدينة, يضبط حركة كل مجتمع, و علاقته بالآخر, و يصون الحقوق و الواجبات, و يحفظ السلم الأهلي, و يحافظ على وحدة التراب, و وحدة المصير.

و هذا عن قطاع الطريق, و الله المستعان ...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين