قصص القرآن الكريم ـ  أصحاب الكهف ـ

آية من آيات الله التي لا تفتأ تطالعنا في كل آن، هاتفاً بها لسان كل زمان، طروباً بها فؤاد كل مكان. ولئن كانت قصة أصحاب الكهف إحدى روائع القدرة الإلهية التي لا تحدّ، ولا يستطيع أن يناهض سلطانها أحد، إن لوح الوجود  الذي خطّت أسطره يد الإله القادر المعبود، في أنفسنا وفيما حولنا، لتزدحم بمثل قصة أهل الكهف آياته أمام عيون المشاهدين، وتتوالى نبراته مصافحة آذان السامعين، ولكن أين من يرى ويسمع:[إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] {ق:37}.

استقبل أهل أفسوس في أحد أعيادهم، وجوه أصنامهم، يوسعونها عبادة وتقديساً، ولكن شاباً من بينهم كَرُم بيته، وزكا أصله، و طابت نفسه، وحصُف عقله، لم يرقه من قومه تاليه هذه الأصنام وتقديس هذه الأوهام، وساوره في شأن هذه العبادة شك محيّر، التاث له رأيه، وتبلبل فكره، فانسلّ من بين هذه الجموع الغفيرة في جهالتها، المتهالكة في عبادتها، حتى انتهت به خطاه إلى ظل شجرة، ائية، أقبل عليها كأنما يبث سر حيرته إليها.

وما كاد يطمئن في مجلسه إلى ظل هذه الشجرة الظليل، حتى وافاه شابٌ آخر ينزعه في شكه وحيرته، وسخطه على عبادة قومه، كما ينزعه في شرف عنصره، وكرم محتده، ثم وافاهما شاب آخر وآخر، حتى ظفِر ظل الشجرة منهم بسبعة شبان، ما كادت تتلاقى نظراتهم، حتى تكاشفت صدورهم، وتفاهمت أرواحهم، وتعانقت آراؤهم، إنهم جميعاً يحقرون هذه الآلهة الزائفة التي شغف بحبها قومهم واختصوها بعبادتهم وهي العاجزة أن تبصر أو تسمع، أو تنفع أو تشفع.

إن هؤلاء السبعة السعداء قد أوحت إليهم فطرهم السليمة، أن يُعملوا أبصارهم الكاشفة، وبصائرهم النافذة فيما سطر في لوح هذا الوجود من آيات وعبر، ليستشفوا من ورائها نور الهداية، وكال العناية، وبرهان التوحيد، فيهتفوا جميعاً في صوت واحد، كأنه صادر من صميم قلب واحد: آمنَّا بإله واحد، بالغ الحكمة محكم التدبير.

ليهنهم هذا الدين الجديد، دين الحق وملة التوحيد، وليكتموه بين لفائف قلوبهم وهو الأعز عليهم من حبات قلوبهم حتى لا عنه ملِكهم الوثني المشرك الذي ظل طول حياته ظهيراً للمشركين.

استطاعوا بخطتهم الحازمة، وسياسة كتمانهم الرشيدة أن يظلوا زمناً بنجوة من فتون هذا الملك المشرك، الظالم المستبد، نهارهم نهار الناس، ومضربهم مضطرب الناس، حتى إذا دجا بهم الليل وخلا كل واحد منهم بنفسه، واجتمع مع قلبه، اتخذ منه محراباً لعبادة ربه، وبات لله راكعاً ساجداً، منزهاً مقدساً.

ثم كانت ليلة ضمت شملهم، ونظمت عقدهم، فابتدرهم أحدهم في همس الحذر المرتاب، كأنما يحسب أن للحيطان آذاناً:

أرْعُوني أسماعكم وأحضروني قلوبكم يا رفاق، فلقد ترامى إلى سمعي ممن لا أشك في صدق روايته، أن الملك الجبار قد افتضح عنده أمر ديننا الجديد فثار وتوعّد، وأرغى وأزبد، وإنَّ أخشى ما أخشاه يأيها الرفاق، أن نساق إليه في الغد القريب، فتحملنا حكومته الغاشمة أن نفتن عن  هذا الدين، أو يقطع منا الوتين، فأجمعوا أمركم وخذوا حذركم.

فقال آخر: إذا تعددت المصادر، دل ذلك على صدق الرواية، فلقد سمعت بما تحدث به إلينا الرفيق، فظننته خبراً عابراً، لا يعدو أن يكون من وضع الوضاع وحدس الحادسين، ولكن بعد إذ تطابق الخبران، أرى أن نرخص أرواحنا في سبيل المغالاة بديننا، وألا نحفل بأي اضطهاد يراد بنا، وأن نلغي عقولنا بعد إذ طلعت شمس الحق مطلعها، فنعدل بربنا هذه التماثيل المنصوبة، ونؤمن بهذه الخرافات المكذوبة.

فأمَّن السبعة الأخيار على رأيه المختار.

وما طلعت شمس الغد حتى انتزعتهم يد القسر من بين أهليهم انتزاعاً، ووقفتهم بين يدي ذلك الملك المشرك  الضلِّيل.

قال الملك وهو مزهوّ بغطرسة الملك وسلطان الشرك، لقد عرفتُ من أمركم ما جهدتم أن تكتموه، وهالني أن صبأتم عن دين الملك ورعيته إلى دين لا إخاله إلا وليد الخيال وعبث الأطفال، ولولا أنكم من أوساط عشائركم، وصدور قومكم، وأني أخشى على الدهماء أن تفتن بكم وتدخل في دينكم، لما عناني صبوءكم من دين آبائكم وأجدادكم إلى هذا الدين المبتدع الجديد.

وهأنذا أهيئ لكم فرصة العودة إلى حظيرة دينكم الأول، حتى تتحاموا نار غضبي بما تصب عليكم من بئيس العقاب وشديد العذاب، إلاّ تفعلوا ذلك فقد زهقت منكم النفوس وطاحت الرؤوس.

قال سبعتهم وقد ربط الله على قلوبهم: أيها الملك! قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، ولقد تهيأ لنا طريق السعادة والنجاة، بعد معرفة الله تعالى، لن ندعو من دونه إلهاً، و لن نعدل به رباً سواه، فأما توعُدك إيانا وتهدّدك، فاقض بهما فينا ما أنت قاض.

قال الملك: سأمنحكم اليوم فرصة ترجعون فيها إلى أنفسكم، وتتفكرون في أعقاب أموركم، على أن يكون لي في شأنكم غداة غد حكم عاجل، وقضاء نازل.

خرج السبعة المباركون يَشتَورون فيما هم فاعلون، فتولى تدبير أمرهم من أسلموا إليه أمرهم، وألقى في رُوعهم أن يشتروا دينهم بوطنهم، فدين المرء وطنه الأول، ومن لا دين له لا وطن له، ولا دنيا ولا آخرة له.

قال بعضهم لبعض: أما الآن، وقد كان من أمرنا وأمر الملك ما كان، فلا قرار على زأرٍ من الأسد، ولا بقاء في مكان لا تقدس فيه الأديان، ولَكهفٌ ضيقٌ في ذلك ا لجبل النائي أفسح صدراً لنا ولديننا من هذه الأرض الوسيعة بنفسها، الضيقة بأهلها، فلنعتزم هذه الهجرة المباركة في سبيل الله، غير آسفين على وطن ولا مغلوبين على دين.

بكَّر السبعة المجاهدون الأبرار الأحرار في غداة غدهم، يحملون ما خفَّ من زادهم فوق ظهورهم، وما وقر من دينهم بين حنايا صدورهم ولا عليهم ألاّ يتزوَّدوا بعد إذ زوّدتهم التقوى، فصاروا بها أصبر وأقدر وأقوى. لمح المهاجرين كلب فتأثرهم حتى بلغوا باب الكهف العتيد، والوطن الجديد، وهنالك نزلوا في ضيافة الله تعالى فأكلوا وشربوا، ثم اضطجعوا ليبرّدوا أقدامهم ويريحوها من وعثاء سفرهم، وقد أخذ فم النعاس يداعب أجفانهم، فما هي إلا لحظات حتى استغرقهم جميعاً بحر نوم عميق.

وتوالت الأعوام يأخذ بعضها برقاب بعض، وتعاقب الليل والنهار وهما في العجب العاجب من أمر هؤلاء الفتية، قد ضرب النوم على آذانهم، وأخذ الكرى بمعاقد أجفانهم، فكان نومهم عجباً سرمداً، لا توقظهم منه أسود زائرة، ولا رياح مدوّية، ولا رعود قاصفة مزمجرة.

تنقذ الشمس إذ تطلع عليهم أمر مجريها في فلكها، فتمس كهفهم بيد أشعتها في تلطف ورفق، لتمنحه من الضوء والحرارة ما يكفي لبقاء مظاهر الحياة لا تنقص من ذلك ولا تزيد، ويد الله من وراء ذلك تقلب أجسادهم ذات اليمن وذات الشمال، وبهذا الأسلوب الحكيم صينت أجسادهم، ولبثت ساكنة فيها أرواحهم مئات من السنين.

لو اطلع مطلع عليهم لحسبهم أيقاظاً وهم رقود، ولروّعه ما خلع الله عليهم من جلال وهيبة ووقار.

مشت عجلة التاريخ منذ نومة هؤلاء الفتية الأبرار في كهفهم، تسعاً وثلاثمائة سنة، وكلبهم باسط ذراعية بالوصيد لا يزايل عتبة باب الكهف، ثم انتبهوا بعد هذه النومة الطويلة متسائلين، قال قائل منهم: [وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى المَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا] {الكهف:20}.

حمل الدراهم من وقع عليه اختيارهم و توجّه إلى المدينة في ثوب الخائف الحذر فأنكرت عينه ما كان يعهد بها من و جوه ورسوم، وما لبث أن كثرت لفتاته، واضطربت خطواته، وغشيت محيّاه سحابة من حيرة ووجوم، نبَّهت الناس له، فأسرعوا إليه، والتفوا حواليه، ثم سألوه ما خطبه؟ فلما عرفوا أنه يطلب طعاماً ليشتريه، دلوه على صاحب طعام، اشترى منه حاجته ثم أخرج الدراهم و نقدها التاجر ثمناً لطعامه، فما راع التاجر إلا أن يرى نقوداً ضربت منذ نيف وثلاثمائة سنة، ظنها عنواناً لكنز ثمين، عثر عليه هذا الحريف الغريب.

التفَّت الجماهير من جديد حول هذا الحريف الغريب السعيد، ليستطلعوا طلعة الخبر، فقال لهم صاحب الكهف: ما أشد دهشتي من دهشتكم، إنما هي دراهم وقعت لي في بعض معاملتي مع الناس بالأمس، وهأنذا أشترى بها طعامي اليوم ثم همَّ بالعودة حتى لا يفطنوا لحقيقة حاله، فتسوء عاقبته وعاقبة أصحابه، ولكنهم بالغوا في التلطف معه حتى عرفوا أنه أحد الفتية الأشراف الذين هربوا منذ تسع وثلمائة سنة من وجه ملكهم الجائر الكافر، فاحتواهم ذهول لهذا الحادث العجب، وهمَّ صاحب الكهف بالهرب، فقالوا له: إنك الآن أنت وصحبك في أمان، لقد مات الملك الكافر الجائر منذ ثلاثمائة سنة، والجالس اليوم على كرسي الملك ملك مؤمن عادل، يسره أن يرى آية الله فيك وفي أصحابك المؤمنين الأبرار الأخيار.

عاد صاحب الكهف إلى الكهف، بعد إذ عرف تلك الفجوة من التاريخ التي تفصل بينه وبين الناس، وترامى إلى مسامع الملك أحداث هذه القصة العجب، فخف إلى الكهف ليرى في أصحابه قوماً أحياء يتحدث لسان حالهم بما  تحدث عنهم به كتاب الله: [أَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا] {الكهف:9}. فصافحهم وعانقهم، وعرض عليهم أن ينزلوا ضيوفاً على قصره ما امتدت الحياة، فقالوا ما لنا بالحياة حاجة بعد الذي كان، وبحسبنا أن وصلنا بإيماننا إلى شاطئ الأمان.

ثم توجهوا إلى الله تعالى بأنفسهم الصافية، والسنتهم الداعية أن يختارهم، وألاَّ يعيد في هذه الدار امتحانهم، بعد إذ احتواهم منه فيما عاشوه فيها تأييد وفضل وإحسان، وما لبثوا أن فاضت أرواحهم لتستدير هذه الحياة الزائفة الباطلة، وتستقبل حياة حقاً خالدة فاضلة،، وسعادة كاملة شاملة.

فأما شهود آخر منظر من مناظر قصة أصحاب الكهف، فقد قالوا والإيمان يملأ قلوبهم: لعل الله سبحانه قد أعثرنا عليها لنعلم أن وعد الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها، ثم تنازعوا أمرهم بينهم، فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم، قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً.

هذه قصة أصحاب الكهف تنطق أحداثها بآيات قدرة الله تعالى، كما تنطق بها لو تدبّرنا في كل لحظة مشاهدُ هذه الحياة، ألا فَلْتبارك يمين الله مواضع الإيمان من قلوب المؤمنين، ولترفع يد رحمته غشاوة الجهل والمكابرة عن أعين الجاهلين والمكابرين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد الثاني من السنة التاسعة، شعوال 1374هـ، يونيه 1955م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين