قصة الغرانيق

قال الله تعالى:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: 52] إيمان النَّاس، لينجوا من العذابِ، ويَعظُمَ له عند الله الثواب، بدليلِ قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ قاتلها غمًّا من أجل ﴿أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3] فتمنَّى على حقيقته كما تبين ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي﴾ طريق ﴿أُمْنِيَّتِهِ﴾ الشبه والشكوك في عقول النَّاس حتى لا يُؤمنوا ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ﴾ أي: يبطلُه بما يبديه الرسول من المعجزاتِ والدَّلائل ﴿يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾ يثبتها في قلوب النَّاس وعقولهم ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بما يلقي الشَّيطان ﴿حَكِيمٌ﴾ [الحج: 52] في تمكينه من ذلكَ ليختبر عبادَه.

وتفسير الآية بهذا المعنى(1) واضحٌ معقولٌ، يتمشَّى مع نظْم القرآنِ، ويوافق حال الرُّسل في حرصهم على إيمان النَّاس.

ولكن كثيرًا من المفسِّرين عدلوا عنه إلى تفسيرٍ آخر، فقالوا: معنى تمنَّى قرأ، واستدلُّوا بقول الشاعر:

تمنَّى كِتابَ الله أوَّل ليلةٍ= تمنِّي داودَ الزَّبُورَ على رِسْلِ

قالواوالمعنى: إلا إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته ما ليس من الوحي، مما يرضاه المرسل إليهم. قالوا: وقد قرأ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (سورة والنجم)، بمجلس من قريش، فلما بلغ: ﴿أَفَرَءَيۡتُمُ ٱللَّٰتَ وَٱلۡعُزَّىٰ١٩ وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ٢٠﴾ألقى الشيطان على لسانه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بغير علمه به «تلك الغرانيق العلا وإنَّ شفاعتهن لترتجى» ففرح المشركون، ولما قرأها على جبريل عليه السلام، قال له: ما أتيتك بهذا.

فحزن صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فأنزل الله هذه الآيات من (سورة الحج) يسليه بهن.

فهذه القصة -وتُسمَّى قصة الغَرانيق- منكرةٌ باطلةٌ، وإن قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: «لها طريقان صحيحان مرسلان»، لأن ما يمسُّ العصمة ويتصل بصميم العقيدة، لا تقبل فيه المسندات الصَّحيحة، فضلًا عن المراسيل.

وأوَّل نكارة في تلك القصة: تسلط الشيطان على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بإلقاء شيءٍ على لسانِه وهو لا يعلمه، مع أنَّ من البدهيات العقلية عصمة النَّبيِّ من الشيطان، فكيف تمكَّن منه في هذه الحادثة؟!

هل كان نائمًا؟ لنفرض ذلك، فهو معصوم في نومه، ولذا كانت رؤيا الأنبياءِ وحيًا يعمل بها في التَّشريع، كما في قصة الذَّبيح إسماعيل عليه السلام.

ثم كيف خَفِيَ عليه الفرق بين إلقاء المَلَك؟ وإلقاء الشَّيطان؟!

ولئن جاز الاشتباه عليه في هذه الحادثة، جاز الاشتباه في غيرها، فترتفع الثِّقة بالوحي، ثم كيف خَفِيَ عليه تناقض الكلامين؟ إذ {الأُخْرَىٰ} صفة ذم، وكلام الشَّيطان المقمم للمدح، وهل يجوز في عقلٍ أن يمتزج كلامان متناقضان على لسان أفصح العرب وأعلمهم بكلام الله تعالى، ثم لا يشعر بتنافُرها؟!

ثم بعد هذا كله كيف يسلي الله نبيَّه بأن جميع الرسل تمكن الشَّيطان أن يلقي على لسانهم ما لم يوح إليه؟! وما معنى العصمة الواجبة لهم عقلًا؟!

وبعضهم أراد تقليلَ نكارات القصَّة، فقال: لم يقل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذلك الكلام، ولا ألقي على لسانه، وإنَّما كان من عادته أن يسكت عند مقطع كلِّ آيةٍ حين يقرأ القرآنَ، فتحيَّن الشَّيطان سكوتَه عند: ﴿الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم: 20] فتكلَّم بتلك الجملة، بقراءة تشبه قراءة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وألقاها في أسماع المشركين، فظنوها قراءته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ففرحوا. وهذا وجه قريب، لكن يبطلُه أمور:

أحدها: أنَّ الشَّيطان لا يتمثل بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في شيءٍ من أمورِه، بمعنى أنه لا يَقْدِر على ذلك ولا يتمكَّن منه حفظًا لمقام النبوة من الخلط والاشتباهِ، ولذا صحَّ في الحديث: «مَنْ رآني في المنام فقد رآني حَقًّا، فإن الشيطان لا يتمثَّلُ بي». وفي رواية: «فإنَّ الشيطان لا يتكوَّنني» وهو حديثٌ مشهورٌ. مع أن الشيطان قد يظهر لبعض الناس في اليقظة أو المنام، فيدعي أنه الله، ولا ضرر في ذلك، إذِ العقل يقضي بتنزُّه الله عن سِمات المُحْدَثاتِ، فكذبُ الشيطان في دعواه هذه واضِحٌ لا يحتاج إلى بيانٍ.

ثانيهما: تنافر كلام الله وكلام الشَّيطان، والمشركون عرب فصحاء لا يخفى عليهم ذلك.

ثالثهما: أنَّ الشَّيطان لا يفعل ما يؤدِّي إلى التقارب بين النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وبين المشركين، بل هو يعمل على عكس ذلك.

وبالجملة فالقِصَّةُ مُنكَرةٌ باطلةٌ كما قال ابن العربي وعياض وغيرهما، وبالله التوفيق.

من كتاب" خواطر دينية"

(1) وهو مضمون ما أملاه القطب الكبير السيد عبد العزيز الدباغ، على تلميذه الإمام العلامة أحمد بن المبارك اللمطي، وسجله في كتاب "الإبريز".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين