قصةُ الخضر عليه السلام مع السائل (2)

من فوائد الحديث:

الخامس: أنْ الخضر نبيٌّ، وهو قول أكثر أهل العلم، حكاه عنهم البغوي، وابن عطيَّة، وحكاه القرطبي، وأبو حيَّان في "تفسيرَيهما" عن الجمهور.

وقال الثعلبي: هو نبيٌّ على جميع الأقوال.

وذهب جماعةٌ من الصُّوفيَّة إلى أنَّه وليٌّ، وهو قول أبي القاسم القُشَيْري في "الرسالة"، وبه قال أبو علي بن أبي موسى من الحنابلة، وأبو بكر بن الأنباري في كتابه "الزاهر" بعد أنْ حكى عن العلماء قولين، هل هو نبيٌّ؟ أو وليٌّ؟.

وحكى الماوردي قولًا ثالثًا: أنَّه مَلَكٌ من الملائكة، يتصور في صورة الآدميين.

وقال الحافظ أبو الخطابِ ابن دحية: لا ندري هل هو مَلَكٌ أو نبيٌّ أو عبدٌ صالحٌ؟.

والصَّحيح أنَّه نبيٌّ لأمور:

أحدها: تصريح هذا الحديث الذي نتكلَّم عليه بنبوَّته.

ثانيها: أنَّ الله حكى عنه قوله:﴿ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ﴾ [الكهف: ٨٢]، أي: بل فعلته بوحيٍّ كما هو الظَّاهر.

ثالثها: أنَّ موسى عليه السلام ذهب يطلبه ويتعلَّم منه، وغير النَّبيِّ لا يكون أعلم من النَّبيِّ، وكيف والنَّبيُّ يوحى إليه؟

رابعها: أنَّ الخضر عليه السلام خرق السَّفينة، وقتل الغلام، وهذان أمران عظيمان لا يمكن أنْ يقدم عليهما بمجرَّد الإلهام الذي يلقى في قلوب الأولياء.

خامسها: ما رواه عبْدُ بن حميد من طريق الربيع ابن أنس، قال: قال موسى لما لقي الخضر: السَّلام عليك يا خضر، فقال: وعليك السَّلام يا موسى، قال: وما يدريك أنِّي موسى، قال أدراني بك الذي أدراك بي.

وقال وهب بن منبه في "المبتدأ": قال الله تعالى للخضر: لقد أحببتُك قبل أنْ أخلقْك، ولقد قدستُك حين خلقتُك، ولقد أحببتُك بعد ما خلقتُك.

وروي عن مكحولٍ عن كعب الأحبار قال: أربعةٌ من الأنبياء أحياءٌ أمانٌ لأهل الأرض اثنان: في الأرض الخضر وإلياس، واثنان: في السماء إدريسٌ وعيسى.

وقال أبو حيان: والجمهور على أنَّه نبيٌّ، وكان علمه معرفة بواطن أوحيت إليه، وعلَّم موسى الحكم بالظَّاهر. اهـ.

ثمَّ هل كان رسولًا أو لا؟ جاء عن ابن عبَّاس ووهب بن منبه: أنَّه كان نبيًّا غير مرسلٍ، وهو قول الجمهور كما تقدَّم في كلام أبي حيان آنفًا.

وجاء عن إسماعيل بن أبي زياد، ومحمد بن إسحاق وبعض أهل الكتاب، أنَّه أرسل إلى قومه فاستجابوا له، ونصر هذا القول أبو الحسن الرماني وابن الجوزي، والأول أصحُّ والله أعلم.

تنبيهٌ: رأيت أنْ أختم شرح هذا الحديث بوصيَّة الخضر لموسى رضي الله عنه.

قال الطبراني في "المعجم الأوسط": حدَّثنا محمد بن المعافى: حدَّثنا زكريا ابن يحيى الوقَّار قال: قرئ على عبدالله بن وهب وأنا أسمع: قال الثوري، قال: مجالد، قال: الوداك، قال: أبو سعيد، قال: عمرُ بن الخطاب، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قال أخي موسى عليه السلام: يا ربِّ أرني الذي كنت أريتني في السَّفينة، فأوحى الله إليه: يا موسى، إنَّك ستراه، فلم يلبث إلَّا يسيرًا حتى أتاه الخضر، وهو فتى طيب الريح، حسن بياض الثِّياب، مشمرها.

فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، يا موسى بن عمران، إنَّ ربَّك يقرأ عليك السَّلام، قال موسى: هو السَّلام، وإليه السَّلام، ومنه السَّلام، والحمد لله رب العالمين الذي لا أحصي نعمَهُ، ولا أقدر على أداء شكرِه إلَّا بمعونته، ثمَّ قال موسى: أريد أنْ توصيني بوصيةٍ ينفعني الله بها بعدك.

قال الخضر: يا طالب العلم، إنَّ القائلَ أقل ملالةً من المستمع، فلا تُمِل جلساءك إذا حادثتهم، واعلم أنَّ قلبك وعاءٌ، فانظر ماذا تحشو به وعاءَك، واعزف عن الدنيا وانبذها وراءك، فإنَّها ليست لك بدارٍ، ولا لك بها محل قرار، وإنما جعلت بلغة للعباد، والتزود منها للمعاد، ورضِّ نفسك على الصَّبر، تخْلُص من الإثم.

يا موسى، تفرَّغ للعلم إنْ كنت تريده، فإنَّما العلم لمن تفرَّغَ له، ولا تكن مكثارًا، بالمنطق مهذارًا، فإنَّ كثرة المنطق تشين العلماءَ، وتبدي مساوي السخفاءَ، ولكن عليك بالاقتصاد فإنَّ ذلك من التوفيق والسَّداد.

واعرض عن الجهال وباطلِهم، واحلم عن السُّفهاء، فإنَّ ذلك فضل الحكماء، وزين العلماء، وإذا شتمك الجاهل فاسكت عنه حلمًا، وجانبه حزمًا، فإنَّ ما بقي من جهله عليك، وسبه إيَّاك، أكثر وأعظم، يا ابن عمران، ولا ترى أنك أوتيت من العلم إلَّا قليلًا، فإنَّ الاندلاثَ والتعسفَ، من الاقتحامِ والتكلفِ.

يا ابن عمران: لا تفتحنْ بابًا لا تدري ما غلقُه، ولا تغلقنْ بابًا لا تدري ما فتحه.

يا ابن عمرانَ: من لا تنتهي من الدنيا نهْمَته، ولا تنقضي عنها رغْبَته، كيف يكون عابدًا؟! ومن يحقر حاله، ويتهم الله فيما قضى له، كيف يكون زاهدًا؟! هل يكف عن الشَّهوات من غلب عليه هواه؟! أو ينفعه طلب العلمِ والجهلُ قد حواه؟!؛ لأنَّ سفره إلى آخرته وهو مقبلٌ على دنياه، يا موسى: تعلَّم ما تعلَّمت لتعمل به، ولا تعلَّمه لتحدِّث به، فيكون عليك بواره، ولغيرك نوره.

يا موسى بن عمران: اجعل الزُّهدَ والتقوى لباسَك، والعلمَ والذِّكرَ كلامَك، واستكثر من الحسنات، فإنَّك تصيب السَّيئات.

وزعزع بالخوف قلبك، فإنَّ ذلك يرضي ربك، واعمل خيرًا، فإنَّك لا بُدَّ عاملٌ سوءًا قد وُعِظت إنْ حفظت، فتولَّى الخضر وبقي موسى حزينًا مكروبًا يبكي».

قال الحافظ نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد": زكريا بن يحيى الوقار ضعَّفه غير واحدٍ، وذكره ابن حبَّان في "الثقات"، وذكر أنَّه أخطأ في وصله، والصَّواب فيه عن سفيان أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال، وبقيَّة رجال الحديث وثقوا.اهـ

قلت: وروى ابن عدي هذا الحديث في ترجمة زكريا الوقَّار بإسناده السَّابق، ثمَّ رواه من طريق أبي الطاهر، والحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن الثَّوري، عن مجالد، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ولم يذكر أبا الودَّاك ولا أبا سعيد، فالحديث معضلٌ ضعيفٌ.

وهو مشتملٌ على وصيةٍ فيها مواعظ وحكم ورقائق، بحيث يصح أنْ يُعد دستورًا يَرجع إليه العالم والمتعلِّم، والخطيب والمحاضر، والزَّاهد والمتعبِّد وغيرهم، والله أعلم.

المصدر: " سمير الصالحين"

([1]) وكثير من الخطباء ينطقونه بفتح الهمزة وهو خطأ.

 

الحلقة الأولى هــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين