قصة البقرة والذئب اللذين تكلما

عن أبي هريرة رحمه الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بينما رجلٌ يسوق بقرةً له قد عمل عليها، التفتت إليه فقالت: إنِّي لم أخلق لهذا، ولكنِّي إنما خلقت للحرث»، فقال النَّاس: سبحان الله: تعجبًا وفزعًا، أبقرة تكلم؟!!

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإنِّي أؤمن به وأبو بكر وعمر وما هما».

ثَمَّ قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بينما راع في غنمه عدَا عليه الذِّئب فأخذ منه شاةً، فطلبه الرَّاعي حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذِّئب فقال له: من لها يوم السَّبع يوم ليس لها راعٍ غيري؟»، فقال النَّاس: سبحان الله!! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكرٍ وعمرُ وما هما»([1]).

الشرح:

«ثَمَّ» بفتح الثاء المثلثة وتشديد الميم: ظرف مكانٍ معناه هناك، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ [الإنسان: 20].

وبقيَّة ألفاظ الحديث واضحةٌ، «إلا السبع» وسيأتي الكلام عليه بحول الله.

ويؤخذ من هذا الحديث أمور:

أحدها: جواز كرامات الأولياء وخَرق العوائد، قال النَّووي: وهو مذهب أهل الحق. اهـ

ثانيها: جواز التعجُّب من خَرق العادات، وتفاوت النَّاس في المعارف.

ثالثهما: فضيلةٌ ظاهرةٌ لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حيث أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بإيمانهما بما جاء في هذا الحديث، وهما غير موجودين في المجلس.

رابعها: أنَّ كبار الصَّحابة وأجلاءَهم لم يكونوا يلازمون النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في جميع الحالات، وأنَّه كانت تحصل في غيبتِهم أحاديثَ يسمعها ويرويها من هم أقل منهم فضلًا، وقدرًا فلا تتعجَّب بعد هذا من حديث يرويه أبو هريرة، وأبو سعيدٍ ولا يرويه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

خامسًا: أنَّ التعجُّب من الخبر لا ينافي صدقه، فإنَّ الصَّحابة ليس عندهم شكٌّ في صدق النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وعصمته، ومع ذلك تعجَّبوا لمَّا أخبرهم بشيءٍ غريبٍ عن مألوف العادات.

وقد روى ابن حبَّان هذا الحديث في "صحيحه" وزاد في آخره، فقال النَّاس: آمنَّا بما آمن به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فيؤخذ من هذه الزيادة أمرٌ آخرٌ وهو سادسها.

سادسها: أنَّ الصَّحابةَ كانوا يُسَارعون إلى الإيمان بما يصدر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وهذا معروفٌ من حالهم بالتواتر.

سابعها: جواز قول: «سبحان الله» ونحوه عند التَّعجُّب، وفيه ردٌّ على من كرَّه ذلك من العلماء.

ثامنها: أنَّ مما يتأكَّد على الإنسان رحمته بالحيوان الأعجَم واستعماله برفقٍ فيما خلق لأجله، فلا يصح أنْ تستعمل البقرة مثلًا في حمل الأثقال وجر العربات، كما نشاهده في كثيرٍ من بلاد مصر وقراها؛ لأنَّ البقرةَ لم تخلق لذلك.

وقوله: «من لها يوم السبع» اختلف في ضبطه ومعناه.

أمَّا الضَّبط فقال عياض: يجوز ضم الموحدة وإسكانها، إلَّا أنَّ الرِّواية بالضَّم.

وقال الحربيُّ: هو بالضَّم والسُّكون.

وقال ابن الجوزي: هو بالسُّكون.

والمحدِّثون يروُونه بالضم، وجزم ابن العربي: بأنَّ الضمَّ تصحيفٌ وليس كذلك.

وأما المعنى: فإنْ كان «السبُع» بضم الباء: فالمراد به الحيوان المعروف، كما قال الحربي والداودي، والمعنى حينئذ: من لها إذا أخذها الأسد فتفرَّ أنت منه، ويأخذ منها حاجته وأتخلَّف أنا أرعى ما يفضل لي منها.

وقيل: إنما يكون ذلك عند الاشتغال بالفتن، فتصير الغنم هملًا فتنهبها السِّباع، فيصير الذِّئب كالرَّاعي له لانفراده بها.

وإنْ كان «السبْع» بسكون الباء فقيل: هو اسم يوم عيدٍ كان لهم في الجاهليَّة يشتغلون فيه باللَّهو الَّلعب، فيغفَل الرَّاعي عن غنمه، فيتمكَّن الذِّئب منها ويصير بتمكُّنه منها كأنَّه راعٍ لها. نقله الإسماعيلي عن أبي عبيدة.

وقيل: المراد به الفزعُ من سَبَعْتُ الرجل أفزعته، أي: من لها يوم الفزع.

وقيل: المراد به الإهمال، من أسبع الرجل غنمه أهملها، أي من لها يوم الإهمال، ورجَّحه النووي.

وقيل: المراد به يوم الشِّدة، كما روي عن ابن عبَّاسٍ أنَّه سئُل عن مسألةٍ فقال: أجرًا من سبع، يريد: أنَّها من المسائل الشَّداد التي يشتدُّ فيها الخطب على المفتي. اهـ من "فتح الباري".

ويظهر لي معنى آخر: وهو الإشارة إلى زمن نزول عيسى عليه السلام، فقد صحَّ في حديثٍ عند أحمد وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا: «وإني أولى النَّاس بعيسى بن مريم؛ لأنَّه لم يكن بيني وبينه نبيٌّ، وإنَّه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه...» وذكر الحديث.

وفيه: «ثمَّ تقع الأَمَنَة على الأرض، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذِّئاب مع الغنم، ويلعب الصِّبيان بالحيَّات لا تضرهم... الحديث».

والمعنى على هذا: من لها يوم السبع حين يرعى الذِّئب مع الشاة بل لا يكون لها راع غيره.

وسمي ذلك الزمن يوم السبْع:

- إمَّا لكثرة ظهور السِّباع فيه من قولهم: «أرض مسبعة»، أي: كثيرة السِّبْاع.

- وإمَّا لأنَّ السباع لا تؤذي فيه، على خلاف ما عُهد من طبيعتها، والله سبحانه وتعالى أعلم.

" سمير الصالحين"

([1]) رواه البخاري ومسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين