قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام (2)

عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاثَ كذباتٍ ثنتين في ذات الله تعالى، قوله: ﴿فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: 89]، وقوله: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ [الأنبياء: 63]، وواحدةٌ في شأن سارة، فإنَّه قدم أرض جبَّار ومعه سارة - وكانت أحسن الناس -، فقال لها: إنَّ هذا الجبَّار إنْ يعلم أنَّك امرأتي يغلبني عليك، فإنْ سألك فأخبريه أنَّك أختي، فإنَّك أختي في الإسلام فإنِّي لا أعلم في الأرض مسلمًا غيري وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، أتاه فقال له: قدم أرضك امرأة لا ينبغي أنْ تكون إلَّا لك، فأرسل إليها فأتى بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصَّلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أنْ بسط يده إليها فقُبضت يده قبضةً شديدةً.

فقال لها: ادعي الله أنْ يطلق يدي ولا أضرك ففعلت، فعاد فقُبضت قبضة أشد من الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت فعاد فقُبضت أشد من القبضتين الأوليين فقال: ادعي الله أنْ يطلق يدي فلك الله أنْ لا أضرك، ففعلت وأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها فقال له: إنَّك إنما أتيتني بشيطانٍ ولم تأتني بإنسانٍ، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر فأقبلت تمشي.

فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف فقال: مَهْيم؟ قالت: خيرًا كفَّ الله يد الفاجر وأخدم خادمًا».

قال أبو هريرة: فتلك أمُّكم يا بني ماء السماء.

رواه الشيخان، وهذا لفظ مسلم.

ما يستفاد من الحديث

يستفاد منه أمور:

الأول: إباحة المعاريض، وهي: جمع مِعْراض، مأخوذ من التعريض وهو خلاف التصريح، وروى البُخاريُّ في "الأدب المفرد"، والطبري في "التَّهذيب"، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشُّعب" عن عمران بن حصين قال: «إنَّ في معاريض الكلام مندوحةٌ عن الكذب»، ورجال إسناده ثقاتٌ.

ورواه ابن السُّني، وأبو عبيد، عن عمران، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم.

وروى البخاريُّ في "الأدب المفرد"، والبيهقيُّ في "الشعب" عن عمر رحمه الله تعالى قال: «أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب».

ورواه العسكري من طريق مجاهد قال: قال عمر: «إنَّ في المعاريض لمندوحة للرَّجل المسلم الحر عن الكذب»، وأشار العسكري إلى أنَّ حكمه الرَّفع.

والمندوحة: السِّعة.

الثاني: قبول هدية المشرك؛ لأنَّ ذلك الملِك أهدى هاجر قبِلها إبراهيم، وأهدى ملك إِيَلة وهو مشركٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بغلةً بيضاء، وأهدى أكيدر دومة للنَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ثوب حريرٍ فأعطاه عليًّا، وقال: «شققه خمرًا بين الفواطم»، وأهدتْ يهوديةٌ شاةً مسمومةً للنَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فأكلَ منها إلى آخر قصتها المعروفة.

فإنْ قيلَ: قد أخرَجَ موسى بن عقبة في "المغازي"، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالكٍ وغيره، أنَّ عامر بن مالك الذي يدعي مُلاعب الأَسنة، قدمَ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مشركٌ فأهدى له فقال: «إني لا أقبل هديةً من مشرك».

وروى أبو داود والترمذي عن عياض بن حمار (1) قال: أهديتُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ناقةٌ فقال: «أسلمت؟» قلت: لا، قال: «إني نهيت عن زَبْد المشركين». صحَّحه الترمذيُّ وابن خزيمة.

و«الزَبْد»: بفتح الزَّاي وسكون البَاء، الرَفد والعَطية.

فهذان الحديثان يفيدان عدم قبول هدية المشرك، فما العمل؟

والجواب: أنَّ أحاديث القبول أصحُّ وأكثرُ من أحاديث عدم القبول، أو تُحمل أحاديث القبول على أنَّ المشركين أهل كتاب كاليهود والنصارى، وأحاديث عدم القبول على أنَّ المشركين وثنيون ليسوا بأهلِ كتاب.

أو يكون النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم امتنعَ عن قبولِ هديةِ هذين المشركين خاصَّة لمعنى يتعلَّق بهما أطلعه الله عليه بدليلِ قوله: «إني لا أقبل هدية مشرك»، «إني نهيت عن زبد المشركين» وهذا تعبيرٌ يفيد الخصوص، ولو أرادَ التَّعميم لقال: «إنَّا لا نقبل» أو «إنَّا نهينا»، أو تكون أحاديث القبول محمولةٌ على الجواز، وأحاديث عدم القبول محمولةٌ على كراهة ذلك، والتنزُّه عنه تعففًا لا تحريمًا.

الثالث: قبول هدية الظَّالم؛ لأنَّ ذلك الملك كان جبَّارًا ظالمًا، ومع ذلك قبل إبراهيم هديته.

الرابع: أنَّ ذلك الملك كان يعرف الله؛ لأنَّه لما قبض يده قال لسَارة: ادعي الله أنْ يطلق يدي، ومع ذلك لم يكن مسلمًا لقول إبراهيم لسارة: «فإنَّه ليس على الأرض مسلمٌ غيري وغيرك».

الخامس: أنَّ الله سبحانه وتعالى يجيب دعاء عبده الصَّالح المُخلص، ألا ترى إلى سارة حين دعت الله أجاب دعاءها وأطلقَ يد الملك في الحال.

السادس: أنَّ الله سبحانه وتعالى يكرم عباده الصَّالحين بكراماتٍ يظهر بها فضلهم عنده وكرامتهم لديه، فإنَّ ذلك الجبار لما قصد سوءًا بسارة قُبضت يده ويبست، وأُطلقت بدعائها فلما عاود القصد يبست أشد من الأولى، وفي الثالثة أشدَّ من الثَانيةِ، حتى اعترف الجبار بفضل سارة، وانصرفَ عنها كرهًا عنه.

السابع: أنَّ الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده الصَّالحين ليرفع درجاتهم، ويزيد في قوةِ يقينهم، وفي الحديث: «أشد النَّاس بلاء الأنبياء، ثمَّ الأمثل فالأمثل»، صحَّحه الترمذي، وابن حبَّان، والحاكم.

وفي رواية من حديث فاطمة عليها السلام: «أشدُّ النَّاسِ بلاءً الأنبياء، ثمَّ الصَّالحون الأمثل فالأمثل»؛ رواه الطبراني، وله طرقٌ وألفاظٌ.

قال الحافظ ابن حجر: ويُقال: إنَّ الله سبحانه وتعالى كشف لإبراهيم حتى رأى حال الملك مع سارة معاينةً، وأنَّه لم يصل منها إلى شيءٍ، ذكر ذلك في "التِّيجان" ولفظه: فأَمرَ بإدخالِ إبراهيم وسارة عليه، ثمَّ نحَّى إبراهيم إلى خارج القصر، وقام إلى سارة، فَجَعلَ الله القصر لإبراهيم كالقارورة الصَّافية يَراهما ويسمع كلامهما. اهـ

الثامن: أنَّ الانسانَ إذا نَابَه همٌّ أو كربٌ ينبغي له أنْ يفزع إلى الصَّلاة؛ لأنَّ إبراهيم عليه السلام حين ابتُلي بهذا الجبَّار قام إلى الصلاة، لأنَّها صِلةٌ بين العبد وربه، وفي "مسند أحمد": كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزبه – أي نَابه - أمرٌ صلَّى، ورواه أبو داود أيضًا.

وروى محمَّد بن نصر في كتاب الصَّلاة عن حذيفة، قال: رجعتُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الأحزاب، وهو مشتملٌ في شملةٍ يُصلِّي، وكان إذا حزبه أمرٌ صلَّى.

وروى – أيضًا - عن عليٍّ رضي الله تعالى عنه وكرَّم الله وجهه: لقد رأيتُنا ليلة بدرٍ وما فينا إلَّا نائم غيرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُصلِّي ويدعو حتى أصبح.

وروى ابن جرير الطبري أنَّ ابن عبَّاسٍ نُعِي إليه أخوه قثمٌ – وهو في سفره - فاسترجعَ ثمَّ تنَحى عن الطريقِ، فأناخَ فصلَّى ركعتين أطالَ فيهما الجلوسَ، ثمَّ قامَ يمشي إلى راحلته، وهو يقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45]

قال المناويُّ: ومنه أخَذَ بعضهم ندب صلاة المصيبة، وهي ركعتان عقبها. اهـ

هذا أهمُّ ما يشتمل عليه الحديث من الأحكام والفوائدَ ذكرناه، وتركنا غيره اختصارًا.

«فائدة»: صحَّ في الحديثِ عن أمِّ شَريكٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرَ بقتلِ الوزغ، وقال: «كان ينفخُ على إبراهيم عليه السلام ». رواه البخاري ومسلمٌ.

وفي "سنن النسائي"، و"صحيح ابن حبان": عن سائبة مولاةِ الفاكه ابن المغيرة، أنَّها دخلتْ على عائشة رحمه الله تعالى فرأت في بيتها رُمحًا موضوعًا فقالت: يا أمَّ المؤمنين ما تصنعين بهذا؟

قالت: أقتل به الأوْزاغ؛ فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا أنَّ إبراهيم عليه السلام لما أُلقِي في النَّار: «لم تكن دابة ٌفي الأرض إلا أطفأتْ النَّار عنه غير الوزغ، فأنَّه كان ينفخُ عليه»، فأمرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتله.

وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من قَتَلَ وزغًا في أول ضربةٍ كُتبت له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك»، وله طرقٌ وألفاظٌ.

هذا وقد بقيت أبحاثٌ كثيرة تتعلَّق بإبراهيم عليه السلام، لعلَّنا نستوفيها أو أكثرها في سلسلة قصص الأنبياء، إنْ شاء الله تعالى وبالله التوفيق.

" سمير الصالحين"

الحلقة السابقة هـــنا

[1] باسم الحيوان المعروف، وبعضهم يقول: حماد وهو خطأ فاحشٌ.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين