قصة آدم عليه السلام بين القرآن وسفر التكوين (2)

1) الشيطان / الحية، والأكل من الشجرة

يذكر سفر التكوين في بداية الإصحاح الثالث عن الحية التي قامت بإغواء حواء التي أغوت بدورها آدم وأكلا من الشجرة: ( وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجرة الجنة نأكل، وأما من ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا، فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر، فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر).

الرواية التوراتية تتحدث عن الحية التي هي أحيل الحيوانات، والتي أغوت حواء للأكل من الشجرة، لكنها لا تذكر سبباً يدفع الحية للقيام بهذه المهمة الشريرة- بل الخيرة كما سنلاحظ- وهل بينها وبين آدم عداوة خاصة- أو صداقة خاصة- وهل لها مشكلة مع الرب حتى تشجع على عصيان أمره؟ وما المصلحة التي كانت تسعى لتحقيقها جراء ذلك؟

- لكن في الرواية القرآنية فإن دور الإغواء يقوم به إبليس/ الشيطان، مدفوعاً بالحسد من آدم الذي جعله الله خليفة، وطلب منه ومن الملائكة السجود له تحيةً له واحتراماً، واعترافاً بسيادته على الأرض، حيث رفض إبليس من منطلق عنصري بغيض يتمثل في رؤيته نفسه أفضل من آدم بسبب أصل خلقه ﴿ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾ [ سورة الأعراف: 12]، ولذلك أخذ على نفسه أن يعمل على إغواء بني آدم، كي يدخلهم معه في النار، ﴿ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين﴾ [ سورة ص: 82، 83]. وفي مكان آخر تعهد الشيطان أن يأتي بني آدم من جميع الاتجاهات، بمعنى استخدام كل الوسائل من أجل إغوائهم: ﴿ قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين﴾ [ سورة الأعراف: 16، 17]، وهذا المشهد ليس في سفر التكوين.

- وصف الحية بصيغة التفضيل ( أحيل)، لا نجد مصداقه في حديث الحية لحواء، إلا من خلال سؤالها- الاستنكاري أو التعجبي ربما- للمرأة: ( أحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟)، كي تستدرجها إلى التصويب والتحدث عن الشجرة التي وسط الجنة، وهذا لا يستدعي وصف الحية بأنها الأحيل.

- من الواضح أن إدخال الحية في القصة، هو من قبيل وضع الرمزي المجازي مكان الحقيقي، فالحية هي رمز للعداوة مع المكر والحيلة، وفيها نعومة الملمس التي بها تخدع ثم تلدغ، وهذا كثير في الأدب الشعبي وحتى غير الشعبي.

- الرواية القرآنية تتحدث أن الله تعالى قد حذر آدم وزوجه بأكثر من صيغة عن عداوة الشيطان، الذي يريد أن يخرجه من الجنة، حيث لا يجوع فيها ولا يعرى وحيث الخروج منها سبب الشقاء؛ ﴿ فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى﴾[ سورة طه: 117-119]، ومقتضى ما سبق أن قوانين الحياة في تلك الجنة غيرها في الأرض، وأن آدم وزوجه كانا يرتديان ثياباً وكانا يعرفان مفهوم العري، وأن المتضرر من الأكل من الشجرة هو آدم وزوجه ولا ضرر في ذلك على الله تعالى، كما يظهر أن آدم قد تعرف على مفاهيم وحقائق الجوع والظمأ والعري في الأرض، أي أنه مكث فيها مدة- قصيرة أو طويلة- قبل دخوله الجنة. 

- بينما تؤكد الرواية القرآنية أن آدم لم يكن عرياناً في الجنة، كما سبق الحديث عند الآية ﴿ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى﴾[ سورة طه: 117]، وكما يأتي التصريح بذلك عند مخاطبة بني آدم في سورة الأعراف كي يعتبروا مما جرى لأبويهم ﴿ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما﴾[ سورة الأعراف: 27]، تتحدث الرواية التوراتية أن آدم وحواء كانا عريانين ولم يكونا يشعران بالخجل حتى أكلا من شجرة المعرفة؛ ففي نهاية الإصحاح الثاني: ( وكانا كلاهما عريانين آدم وامرأته وهما لا يخجلان)، وفي الإصحاح الثالث: ( فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر)، وربما فهم العديدون من رواية سفر التكوين، أن الشيطان – مشكوراً!!- قد دل البشرية على العلاقة الجنسية، وما يرافقها من المتعة واللذة، وما ينتج عنها من التوالد والتكاثر وبقاء النوع. وهذا الفهم يعززه في سفر التكوين أن كلمة ( المعرفة) تكررت بمعنى العلاقة الجنسية بين الرجل وامرأته، كما في الإصحاح الرابع: " وعرف آدم امرأته فحبلت" و" وعرف قايين امرأته فحبلت"، ولا ننسى أن المعرفة يسبقها جهالة في العادة.

وهذا المعنى يتناقض مع السياق القرآني الذي تحدث من البداية أن الإنسان مخلوق للخلافة في الأرض، والخلافة لا يقوم بها اثنان فقط، لا بل إن حديث سفر التكوين عن تكثير ذرية آدم وملء الأرض منهم، منذ لحظة الخلق يعني ضمناً وقوع العلاقة الجنسية، حيث جاء في الإصحاح الأول: ( ذكراً وأنثى خلقهم، وباركهم الله وقال لهم: أثمروا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها). 

- إن اكتشاف آدم وحواء بأنهما كانا عريانين، بحسب سفر التكوين، يحمل من الإيجابية والخير لهما أكثر من الشر والسلبية، فهو من جهة، أثر عن الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، ومقارن لكونهما أصبحا بالأكل كالله عارفين الخير والشر!!، فضلاً عن انتقالهما من مرحلة أشبه ببراءة الطفولة وسذاجتها إلى مرحلة التطور والوعي اللذين يقتضيان ارتداء الثياب وستر العورات.

لكن الرواية القرآنية تتحدث عن (سوءات)، والاشتقاق من السوء والشر، ما يعني أن انكشاف العورات يضر أصحابه ويصيبهم بالسوء، كما أنه يسوؤهم لما يترتب عليه من الضرر النفسي والمادي والاجتماعي، ولذلك بادرا إلى ورق الجنة يلزقانها على جسديهما ﴿ فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ﴾ [ سورة الأعراف: 22]، كما يتحدث القرآن أن الشيطان وسوس لهما وهو يريد أن يبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما: ﴿ فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملَكين أو تكونا من الخالدين ﴾ [ سورة الأعراف: 20].

ومن ثم يأتي التحذير القرآني لبني آدم﴿ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما﴾[ سورة الأعراف: 27]، ليعزز قضية هامة أن تعرية الإنسان من أخطر ما يمكن أن يفعله ضده أعداؤه من الشياطين، ولاحظ تعبير ( ينزع) ﴿ ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما﴾، ثم تعبير ( ليريهما سوءاتهما) وما يمكن أن يتحدث عنه علماء النفس والتربية وغيرهم عن آثار انكشاف العورات. ومن الملاحظ أن السوءات جاءت بصيغة الجمع لا بصيغة المثنى، بمعنى أنها لا تنحصر في العضوين التناسليين.

كما يستفاد من إلزاق الزوجين ورق الجنة على أجسامهما أن الفطرة البشرية تأبى التعري، وأن الإنسان العادي - ولو كان منفرداً – فإنه لا يتعرى، وحتى الأزواج – كما لاحظنا آدم وزوجه، وكما هو الغالب في الواقع البشري- فإنهم ولو كانوا وحدهم لا يمكثون عريانين، وأن كشف العورات للإنسان السوي لا يكون إلى للحاجات الطبيعية أو الضرورية، وبعيداً عن عيون الآخرين، ولذلك فعن قصد وحكمة جرى تورية وتغطية سوءات آدم وزوجه من الله تعالى، وعن تخطيط وتعمد حرص الشيطان على كشفها لهما: ( فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما)، وكذلك فإن عبارة ( ليريهما سوءاتهما)، وعبارة: ( بدت لهما سوءاتهما)، توحيان بأن غاية الشيطان هي أن يرى كل منهما سوآت صاحبه وسوءات نفسه، وليس فقط سوءات الطرف الآخر.

- بحسب سفر التكوين فإن الحية قدمت خدمة لآدم والبشرية من بعده، لأنها دلته وزوجه على الشجرة التي يصيران بعد الأكل منها ( كالله عارفين الخير والشر)، ولن يموتا أو يصيبهما الضرر، ثم كانت النتيجة باعتراف الرب نفسه:( وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر)، والغريب بالتالي أن يأتي نص يقول إنه من الرب ثم يخبرنا بأن عدو الرب يعمل لصالح البشر، فيما الرب حريص على تجهيلهم، وهل هذا النص بمنطوقه ومفهومه يدعو البشر إلى التزام أوامر الرب أم يدعو إلى عصيانها ومخالفتها؟ وهل تكون الحية رمز الشيطان بعد ذلك صديقاً أم عدواً للإنسان؟. وهل كان هذا النص من الأسباب التي جعلت ماركس يقول بأن الدين أفيون الشعوب؟

- قصة الحية التي أسدت معروفاً لبني الإنسان، بدعوته إلى الأكل من شجرة المعرفة، لا تختلف كثيراً عن قصة بروميثيوس في الأسطورة اليونانية الذي سرق شعلة النار من جبل الأولمب، وجاء بها إلى البشر، التي تعني النور والمعرفة والدفء، قام بسرقتها من الآلهة وإعطائها للبشر، وجزاء لبروميثيوس وتجاوزاته، عاقبه زيوس- رب الأرباب عند اليونان- بأن قيده بالسلاسل إلى صخرة كبيرة في القوقاز ... وسلط عليه نسرا جارحا ينهش كبده كل يوم ... ثم ينمو الكبد مجددا في الليل، إلى ان أتى هيراكليس وخلصه. وهل يمكننا القول إن الحضارة الغربية، في موقفها من الدين، يرتكز بشكل أساسي على قصة بروميثيوس سارق النار من الآلهة للبشر، وقصة الحية التي دلت آدم على شجرة المعرفة بخلاف أمر الرب؟

2) بين تحمل المسؤولية أو البحث عن كبش فداء

في القرآن الكريم جرى تحذير آدم وزوجه: ﴿ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين﴾ [ سورة البقرة: 35]، وعندما أكلا من الشجرة ﴿ وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين﴾ [ سورة الأعراف: 22]، كان الجواب أنهما: ﴿ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾ [ سورة الأعراف: 23].

وأما في سفر التكوين فقد ورد:" وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة ، فندى الرب الإله آدم وقال له أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت، فقال من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي التي أعطتني من الشجرة فأكلت، فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت، فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين، وتراباً تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسكِ وأنتِ تسحقين عقبه، وقال للمرأة: تكثيراً أكثر أتعاب حبلك؛ بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك، وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك، وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً لا تأكل منها؛ ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود.

" ودعا آدم امرأته حواء لأنها أم كل حي، وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما.

" وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً، ويأكل منها ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها، فطرد الإنسان وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة" نهاية الإصحاح الثالث. 

- الرب في سفر التكوين يمشي في الجنة وتسمع أصوات قدميه، ويختبئ منه آدم وسط الأشجار فلا يراه، " ويستنتج" استنتاجاً أن آدم قد أكل من الشجرة، بينما يأتي النداء الإلهي لآدم وزوجه فور أكلهما من الجنة يعاتبهما فيما فعلا.

- في سفر التكوين يلقي الرجل بالمسؤولية على المرأة، والتي تلقيها بدورها على الحية، بل إن كلام آدم حتى وهو يلقي باللائمة على المرأة فإنه يُشتمُّ من كلامه رائحة إلقاء اللوم على الرب نفسه وهو يخاطبه بالقول :( المرأة التي جعلتها معي هي التي أعطتني من الشجرة فأكلت)، بل إن العملية كلها ليست فيها أية جريمة سوى أن الحية دلت الإنسان على ما فيه خيره، وهو بدوره سعى لذلك الخير، ومقتضى ذلك أن العقوبات التي طالت الرجل والمرأة والحية ظلم من الرب عليهم دون ذنب منهم.

بينما في القرآن الكريم يعترف آدم وزوجه بخطئهما، ويقران أنهما اللذان أوقعا الظلم على نفسيهما، ويستغفران الله ويطلبان رحمته، فيتوب عليهما، بل لا يلقيان باللائمة حتى على الشيطان الذي لا يخفى دوره في إغوائهما، وفي رأيي فإن هذا الموقف من الصعب أن يختاره غالب البشر ولا بد له من توجيه علوي، وفقد فهم كثير من المفسرين قوله تعالى: ﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم﴾[ سورة البقرة: 37]، أن الله قد علّم آدم كيف يعتذر ويسغفر، فتلقى آدم ذلك بالقبول ونفذه، وكذلك فإن الاعتذار والاعتراف بالخطأ عو سلوك الكبار والحكماء، وهذا يتناغم مع حقيقة تميز آدم وأفضليته.

- بعد الأكل من الشجرة يراجع الرب في سفر التكوين كلاً من آدم وامرأته، لكن لا يراجع الحية، بينما يراجع الله تعالى إبليس بأكثر من صيغة لمَ لمْ يسجد لآدم، علماً بأن قصة أمر الملائكة وإبليس بالسجود لآدم لا وجود لها في سفر التكوين، وفي حين يظهر إبليس – في القرآن- متكبراً عنصرياً، عنيداً، كافراً بالله وعدواً للإنسان، فإن الحية التي وُصفت في سفر التكوين بأنها أحيل الحيوانات، ليست أكثر من ( فاعلة خير!)، وإن كان لها من مشكلة، فهي مع الرب وليس مع الإنسان، بينما في القرآن يظهر دور / إبليس الشيطان في حرف بني آدم عن الصراط المستقيم وجرهم معه إلى النار.

بل لقد لاحظ مختصون بالأديان بأنه لا يبرز الشيطان بشكل واضح في عدد من أسفار العهد القديم، وربما يكون السبب، في رأيي، أن الأدوار الشريرة التي تنيطها الأديان بالشياطين ورموز الشر عندها، قد نسبها كُتاب العهد القديم إلى أنبيائهم وقادتهم وأبناء الشعب المختار نفسه، فلم يبق بعدها دور يمكن أن يلعبه الشيطان!!.

- إن دور إبليس في الرواية الإسلامية ليس أكثر من الدعوة، وليس له سلطان قهري على الناس، والمسؤول أولاً وأخيراً هو الإنسان الذي استجاب للدعوة، ولذلك يعرض القرآن مشهداً مستقبلياً من مشاهد يوم القيامة، يتحدث فيه إبليس إلى الناس الذين أضلهم أنهم هم الملومون، لأنهم استجابوا لدعوته، وأنه لم يكن له عليهم أي سلطان، ﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم.. ﴾ [ سورة إبراهيم: 22]، في حين يتضخم دوره في بعض الأديان والأساطير حتى يغدو إلهاً أو شبه إله، كما في حالة بروميثيوس في أساطير الإغريق، أو حالة إله الظلام ( أهريمان)، المقابل لإله النور ( أهورامازدا) في الزرادشتية.

- العقوبات التي أوقعها الرب على الثلاثة ومعهم الأرض، بحسب رواية سفر التكوين، من جهة، تتضمن التفسير الأسطوري لبعض الأحداث والوقائع، فمشي الحية على بطنها، والذي يفترض أنه من أصل الخلقة، يصبح هنا عقوبة لها على جريرتها، وكونها تلدغ العقب، وكون الإنسان يحرص على سحق رأسها، ليس عقوبة لأي منهما بل هي تفعله غريزة لكون العقب أقرب الأعضاء إليها – على فرض صحة الفكرة - وهو يفعله لأن الرأس مقتلها لا غيره، ولأن سمها وخطرها فيه، ومثل ذلك الكلام عن آلام الحمل والولادة؛ فالمفترض أن هذا الألم اقتضته الحكمة الإلهية منذ البداية، ولا علاقة له بالعقوبة، وفي القرآن الكريم، فإن آلام الولادة منقبة للوالدة وليست منقصة، وقد تكرر التذكير به عند دعوة الأبناء إلى البر بالآباء والإحسان إليهم كما في قوله تعالى: ﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ﴾[ سورة الأحقاف:15]، ﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن﴾[ سورة لقمان: 14].

لكن أخطر ما في هذه العقوبات التي يسطّرها كَتَبة العهد القديم، أنها تجعل أي ألم أو ضعف أو مصيبة، أو إعاقة، أو انخفاض منزلة تقتضيه الطبيعة الاجتماعية أو الظروف السياسية والإدارية، هو بالضرورة عقوبة ربانية على جريرة معينة، أو حتى بدون جريرة، حيث جعل سفر التكوين سيادة الرجل في الأسرة من ضمن العقوبة الربانية لها. ويمكننا أن نفهم بناء على هذا أن الرب ساخط على العبيد راضٍ على السادة، ومع أرباب المصانع ضد العمال، ومع الحكام ضد المحكومين، ومع الستعمِرين ضد المستعمَرين. 

وهو ما نلاحظه في عقوبة المرأة في سفر التكوين، بجعل الرجل سيدا عليها: ( وهو يسود عليك)، بينما القوامة في كما يقررها القرآن تكليف وواجب وهي عبء أكثر منها كرامة، ويبدو أن التصوير الكتابي للقوامة، وإشعار المرأة بالنقص كان من أسباب قيام الحركات النسوية ضد هذا التصور وما ينبني عليه من واقع، فثارت ضد سيادة الرجل وحاولت التحرر من الحمل والولادة التي هي بنص كتابهم عقوبات من الرب!!

3) الخطيئة الأصلية

خلافاً لما في سفر التكوين، فإن السكن في الأرض هو للقيام بوظيفة الخلافة وليس عقوبة، وكان مقرراً من قبل، فضلاً عن أن الله تعالى قد غفر لآدم وزوجه بعد استغفارهما. 

لئن صح، ولو من باب المشاكلة اللفظية، ولأجل الموازنة والمقارنة، البحث عن ( الخطيئة الأصلية) في الإسلام، فإننا واجدون الخطأ جزءاً من التركيبة البشرية التي لا ينفك منها. ففي الحديث الشريف ( كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، ومفهوم هذا الحديث أن الخطأ متوارث طبيعة، والأمر مختلف عن توارث الخطيئة، بمعنى انتقال إثمها وضررها على الأبناء، ولقد تكرر في القرآن الكريم أنه لا ﴿ تزر وازرة وزر أخرى﴾ ، بل لقد بين القرآن الكريم في رده على المعتقدات الفاسدة أن الله تعالى قد قرر هذا المبدأ فيما أنزله على إبراهيم وموسى عليهما السلام؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿ أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفّى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾[ سورة النجم: 36 – 39].

إن الإنسان يولد بلا خطايا، وقد جاء في الحديث أن ( من حج فلم يرفث ولم يصخب رجع كيوم ولدته أمه)، وقال عليه السلام أيضاً ( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) ( صحيح مسلم: 2749). ومقتضى هذا الحديث الأخير، أنه ليس المطلوب للخلافة مخلوق ملائكي معصوم، بل آدمي كثير الخطأ لكنه كثير التوبة أيضاً، وذلك سبيل التطور والتقدم، ولذلك كان اختيار الإنسان حتى مع كونه يفسد ويسفك الدماء على الملائكة.

4) بين الآخرة وشجرة الخلود

في القرآن الكريم ومع إخراج آدم وزوجه، وإهباطهم إلى الأرض، جاء التأكيد أن بقاءهم في الأرض مؤقت، وأن الله لن يتركهم دون إمدادهم بالهدى، الذي سينقسم الناس بناء على موقفهم منه في الآخرة: ﴿ قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾[ سورة البقرة: 38، 39]، ﴿ قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين، قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون﴾[ سورة الأعراف: 24، 25].

لكن في أواخر الإصحاح الثالث من سفر التكوين فإن الأرض هي النهاية، وليس بعدها إلا الفناء :"بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود".

" وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً، ويأكل منها ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها، فطرد الإنسان وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة". 

ومن الواضح أن فكرة الآخرة والحساب والجزاء بعد الحياة الدنيا، لا وجود لها فيما مرّ من سفر التكوين، وهذا مفصل ومفترق هام فيما بين الكتابين والقصتين، قصة ترى الموت هو أعظم الشرور وهو النهاية، بينما هو في القصة الأخرى مرحلة انتقالية، بين دار العمل والاختبار، ودار الحساب والجزاء.

وحيث يخاف الرب في سفر التكوين، من أن يأكل الإنسان من شجرة الحياة، فيعيش إلى الأبد، فإنه يخرجه من جنة عدن، ويجعل على طريق شجرة الحياة (الكروبيم) أي ملائكة ، ومعهم لهيب سيف متقلب!!.

5) الرب الذي لا يخاف

بعدما رفض إبليس السجود لآدم وأبى أشد الإباء، وأهبطه الله من المنزلة التي كان فيها، طلب من الله أن يؤخره إلى يوم يبعث الناس، فأخبره سبحانه أنه سيكون من المؤجَلين، وذلك مع علمه بأن إبليس يريد هذه المهلة لإغواء بني آدم: ﴿ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم﴾[ سورة الحجر:36-38]، من جهة فإن الرب غير خائف لا من آدم ولا من الشيطان، وما سيفعله الشيطان ليس عامل قلق حتى على آدم وذريته، لا بل إن وجود الشيطان يشكل عامل تحدٍ وله دور إيجابي في تحقيق وظيفة الإنسان على الأرض، يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو﴾[ سورة البقرة:36].

ومن جهة أخرى فإن سائر مبادئ الإسلام ومسيرته التاريخية، تستوعب الآخر المخالف، ولا تمانع في التعايش معه ما لم يقم بأعمال عدوانية مادية، وشعار الإسلام الكبير ﴿لا إكراه في الدين﴾[ سورة البقرة:256]، فيما المسيرة التاريخية للمؤمنين بسفر التكوين تكشف عن عدوانية كبيرة ضد الآخر، وأعمال إبادة استئصالية ربما يكون أبرز دوافعها القلق على الذات والمصير.

الخلاصة

قصة آدم في القرآن، تختلف شكلاً ومضموناً، عنها في سفر التكوين، وبالرغم من نقاط الالتقاء العديدة والهيكل العام الذي يوهم، بالتشابه، فإن الخلاف بين القصتين اختلاف جوهري وعميق، وهناك العديد من النقاط في ذلك:

1) غاية الوجود في القرآن الكريم جلية واضحة بأنها خلافة الأرض وإعمارها، لكنها فترة ابتلاء واختبار، وهي دار ممر لا دار مقر، أما غاية الوجود في الجنة أو في الأرض بالنسبة للعهد القديم فهي مضطربة مشوشة.

2) ويتفرع عن ذلك أننا لا نكاد نجد ذكراً للآخرة في قصة آدم في العهد القديم، بينما الآخرة في القرآن الكريم حاضرة وبقوة بدءاً من نهاية قصة آدم التي تؤكد مرحلية الحياة الدنيا وكونها اختباراً كما في سورة الأعراف:﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (24) ﴾ ،وأن هناك يوم قيامة وحساب كما في سورة طه: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) ﴾[ سورة طه]، وفي سورة البقرة: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)﴾.

3) بينما يثبت القرآن الكريم وقصصه صفات الكمال لله تعالى، وينزهه عن كل نقص، ووتجلى في حقيقة التوحيد في أبهى صوره، نجد الأمر على العكس من ذلك في سفر التكوين والعهد القديم عموماً، فالرب يحتاج للراحة بعد الخلق، ويعيد النظر فيما يخلق فيستحسن أو يعدّل، يكذب على آدم بقوله إنه سيموت إذا أكل من شجرة المعرفة، ويختبئ منه آدم وحواء فيسألهما أين أنتما، ويشعر بالقلق بعد أكل آدم من الشجرة، قائلاً: " هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر"، وتعبير ( كواحد منا)، يشير إلى وجود مجموعة من الآلهة، أو أشباههم، ولا ننسى أن العهد القديم في الأصل تستخدم بعض نسخه لفظة (يهوا)، أو لفظة ( إلوهيم)، وليس لفظ الجلالة ( الله) كما في الترجمة العربية، والتعبير ب( إلوهيم) يفيد الجمع لا الإفراد؛ لأن الياء والميم في العبرية هو المقطع الذي يلحق أواخر الكلمات المذكرة المفردة فيحولها إلى الجمع، وحتى لو كانت لها دلالة أخرى غير الجمع فإن فمن الصعب تصنيف العهد القديم كنص توحيدي مثل القرآن الكريم.

4) لا يمكن للقرآن أن يكون اعتمد على العهد القديم، لسمو القرآن الكريم لغة ومضمونا وخلوه عن الاضطراب، خلافاً للعهد القديم، والبشر مهما حاولوا فليس بمكنتهم الإيتاء بمثل القرآن، ويدل على ذلك أمران، أولهما أنه قد توافر على الكتاب المقدس بعهديه، عشرات آلاف اللاهوتيين والعقول ( الكبيرة) التي درست ونقحت وقامت بالكثير منذ أكثر من ألف عام ولم يخرجوا لنا نسخة بصفاء القرآن الكريم لا في لغته ولا في مضمونه، وكذلك فقد توفر للقرآن الكريم الكثير من المفسرين، لكن هذه الجهود على كثرتها وأهميتها حين نقارنها بنص القرآن الذي تفسره، فإنها تظل دونه بكثير، وتظل قابلة للزيادة والتصويب، ولو كان القرآن عملاً بشرياً لكان متوقعاً أن تكون جهود اللاحقين مطورة ومعدلة ومحسنة للنص الأصلي.

الحلقة الأولى هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين