قراءة في كتاب مقدمة ابن خلدون (4)

قراءة في كتاب مقدمة ابن خلدون (4)

4 كتب حول سيرة ابن خلدون

د. محمد سليم العوَّا

 

نبدأ بما وقفنا عنده من تعريف بالكتب التي نحيل إليها لمن أراد التوسع في معرفة ابن خلدون ومقدمته.

 

أول كتاب أود أن أذكره كتاب المؤرخ الكبير العلامة محمد عبدالله عنان، رحمة الله عليه، وهو يعتبر في مصر مؤرخ الأندلس في أوائل القرن العشرين إلى نهاية عام 1967 أو 1968م، أرَّخ للدولة الأندلسية والدولة المغربية كلها في مجموعة كبيرة من الكتب، وكتب عن ابن خلدون كتاباً صغيراً؛ عبارة عن بحث قدمه في مؤتمر انعقد في القاهرة بمناسبة 600 سنة على وفاته.

 

الكتاب اسمه «ابن خلدون.. حياته وتراثه الفكري»، وهو على صغر حجمه مليء بنفائس المعلومات، ومن أنفس ما وجدته فيه -ولم أجده في غيره- صورة الإجازة العامة التي بعث بها عبدالرحمن بن خلدون إلى أئمة الحديث في مصر، قال فيها: «أجيز المشايخ المحترمين والعلماء العاملين بكل ما طلبوا مني الإجازة فيه».

 

عثر د. عنان في المكتبات على صورة من هذه الإجازة ونشرها في كتابه، ومثل هذه الإجازات بالنسبة إلى المشتغلين بالعلم وثائق بالغة الأهمية؛ فهي إذن بالراوية عنه والتحديث بكلامه إلى الناس ونقل علمه إليهم.

 

الكتاب الثاني هو كتاب د. علي عبدالواحد وافي «في مقدمة ابن خلدون»، وقد وصف فيه حياة ابن خلدون وصفاً جيداً، هذه المقدمة كافية جداً لمن يريد أن يعرف من هو ابن خلدون؟ ما كتبه وتاريخه؟ ما مناصبه؟ فهذه المقدمة وافية بذلك كله.

 

الكتاب الثالث هو مقدمة هذا الكتاب للأستاذ إبراهيم شبوح، وهو كتاب التاريخ كله، لمن أراد أن يعرف عن المقدمة ونسخها الصحيحة، فالأستاذ العلامة إبراهيم شبوح -نفعنا الله به- عمل مقدمة في 144 صفحة من القطع الكبير عن المقدمة.

 

الكتاب الرابع والأخير كتاب عجيب للفيلسوف الكبير، المختلف عليه، أ.د. عبدالرحمن بدوي، وهو من أكبر العقول العربية في عصرنا الحاضر، ممن درسوا الفلسفة وتعمقوا فيها وكانت له آراء فلسفية مستقلة، له كتابان؛ أحدهما عن مؤلفات الإمام أبي حامد الغزالي، والآخر عن مؤلفات عبدالرحمن بن خلدون، أصدره المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، بمناسبة احتفالية المركز بابن خلدون مؤسس علم الاجتماع.

 

هذا الكتاب نمط غريب في التأليف بدأه ببطاقة تعريف سماها «بطاقة الحياة» أو «لوحة حياة»، نحو 14 صفحة في حياة ابن خلدون من ميلاده إلى وفاته، ثم استعرض كل مؤلفاته الثابتة نسبتها إليه، ومؤلفات أخرى مشكوكاً في نسبتها إليه، وجاء بما يرد على الشبهات أو يؤيدها.

 

يقول بدوي: «كتب ابن خلدون المقدمة في المدة من شهر صفر إلى آخر شهر جمادى الآخرة سنة 779هـ، كتبها وهو مقيم في قلعة بني سلامة في مقاطعة وهران الجزائرية، هذه هي النسخة التونسية، وهناك النسخة التي كتبها في مصر، ظل ابن خلدون مصاحباً لهذه النسخة حتى قبل وفاته بأشهر قليلة جداً، ربما أيام، يزيد فيها ويحذف ويصحح»، حتى إن عبدالرحمن بدوي يقول: «لعلنا لا نعرف كتاباً في العربية نستطيع أن نتبين مراحل تطوره البارزة كمقدمة ابن خلدون».

 

نسخة القراءة

النسخة التي حققها أ. شبوح، التي سنقرأ منها، مبنية على خمسة أصول خطية: الأصل الأول فيه نسخة ابن خلدون نفسها النسخة المصرية، ويأسف أ. شبوح لأن هذه النسخة هي أصح النسخ؛ لأنها ترجع أصلاً إلى نسخة بخط ابن خلدون، ينقصها الكراس الأخير، ويأسف أسفاً شديداً على ضياع الكراسة الأخيرة منها، وأهمية آخر الكتاب كبيرة؛ لأنه يكون فيه أمران مهمان جداً:

 

الأول: مَنْ الذين سمعوا الكتاب على مؤلفه، في أوراق مضافة ورقة وراء ورقة، من الذين استعموه في الأيام المختلفة أو البلاد المختلفة.

 

الثاني: الذي يكون عادة في خاتمة الكتاب، بعض الردود على بعض الذين سمعوه، فيقول: وفي سماع فلان قال كذا ونحن رددنا عليه بكذا، سماع فلان قال كذا، وسماع فلان قال كذا وقد صوبنا.. إلخ.

 

يقول ابن خلدون، في هذه النسخة التي سنشتغل عليها: «هذه مسودة المقدمة، وهي علمية كلها كالديباجة لكتاب التاريخ، قابلتها جهدي وصححتها، وليس يوجد في نسخها أصح منها، وكتب مؤلفها عبدالرحمن بن خلدون، وفقه الله تعالى وعفا عنه».

 

ويندر أن تجد كتاباً عليه شهادة من مؤلفه مثل هذه، وهي النسخة الأخيرة وهي الخاتمة، وليس في النسخ التي بين أيدي الناس أصح من تلك النسخة؛ فعندما توجد لا بد أن تكون أصلاً في التحقيق.

 

يقول ابن خلدون، عن «المقدمة» كما ذكرنا: «.. وهي علمية كلها»، وسوف نرى أن «المقدمة» علم فعلاً، بل من جوامع العلم، علم اخترعه ابن خلدون ثم برع فيه ثم أحسن تصنيفه وترتيبه حتى أصبحت هذه «المقدمة» مرجعاً للناس، وإلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا ليس مبالغة؛ فابن خلدون علَم من أعلام الدنيا ورائد من رواد الفكر الإسلامي، وعمله في كتاب التاريخ خير دليل على ذلك؛ فقد ذكر الحوادث وحللها وأرجعها إلى أسبابها وبيّن زيف ما أرجعت إليه من أسباب في رأي غيره من المؤرخين؛ فالكتاب إذن كتاب علمي هائل، لذلك لما يصف مقدمته ويقول: هي علمية كلها كالديباجة لكتاب التاريخ، لا يكون قد خالف الصواب.

 

وفي الرد على غرابة اسم الكتاب «المقدمة» أقول: إن هناك كتباً كثيرة في تراثنا وثقافتنا العربية والإسلامية معنونة «المقدمة»؛ فعندنا «مقدمة المنطق»، ومقدمة في الفلسفة والمنطق والرياضيات اسمها «مقدمة إيساغوجي»، وعندنا مقدمات في النحو واللغة؛ ففكرة المقدمة مسألة شائعة ومقبولة وجيدة ولا أقول ننفرد بها، ولكن نكاد أن ننفرد بها؛ فهي في الثقافة العربية مسألة مهمة؛ لأنها تبين وتمهد لنا العلم وأصحابه تمهيداً لا يوجد إذا انعدمت هذه المقدمة، وهذه هي «المقدمة» لتاريخ ابن خلدون نبدأ فيها إن شاء الله تعالى.

 

لقراءة المقال السابق .. اضغط هـنـا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين