قراءة في خطاب الواعظين بعد الزلزال

قراءة في خطاب الواعظين بعد الزلزال

د. مرهف عبد الجبار سقا

 

1 - الزلزال في الأرض كالمرض في جسم الإنسان، يقدره الله تعالى كيف يشاء، وهذا التقدير جعله الله ضمن أسباب ومسببات، فكما أن المرض يصيب الطائع والعاصي والمؤمن والكافر؛ فكذلك الزلازل والبراكين وغيرها من الظواهر التي يخلقها الله في الكون، تصيب من يريد الله أن تصيبه من المؤمنين وغير المؤمنين.

2 - ومن يتصفح كتب التاريخ من العهد النبوي إلى وقتنا الحالي يجد أن هذه الظواهر الكونية أصابت المدن الإسلامية بمثل هذه الكوارث بل ربما بعضها أشد، وبعضها أقل، فهذا قدر الله ولا راد لقدره.

3 - فما يتجه له بعض الواعظين من حصر هذه الظواهر الكونية بالعقوبات الربانية وجلد الناس بالكلام وتأنيبهم بالخطاب ليس توجها سليما، ولا خطابا حكيما، بل هذه التوجيه يدل على قصور في فهم النصوص الشرعية وإساءة للتصور الصحيح والفهم السديد للآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

4 - وأكثر ما يؤلم في خطاب بعض الواعظين تنزيل آيات الوعيد للكافرين والمعاندين للتوحيد وتوجيهها لتكون للمؤمنين، فكيف استقام لهم ذلك؟ والله عز وجل يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36].

5 - نعم... إن إنزال العقوبة بالمجرمين والظالمين والكافرين عبرة لمن بعدهم، وتخويفا لأمثالهم، ولكنها أيضاً تأييد للمؤمنين وتقوية لإيمانهم، وليس تجزيعا لهم من رحمة الله.

6 - والسياقات التي وردت فيها آيات التهديد بالعذاب كان الخطاب فيها متوجها للمنكرين لدين الله والمحاربين لله ورسوله، والمعاندين للدعوة إلى الله وأعوانهم، وليست للمؤمنين وإن كانوا مذنبين، فقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 50]

فهل المؤمن مجرم؟!.

وكقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف: 96، 97] والآيات بعدها، فمن يسقطها على المسلمين فكأنه يحكم عليهم بالكفر والمعاندة لدين الله، وهذه خطورة في فهم النص القرآني .

وقل مثل ذلك في باقي الآيات، فالواجب على الواعظ والداعية أن يرجع إلى تفسير الآية ويفهم الآيات التي قبلها والتي بعدها ومناسبتها لبعضها ويقرأ بتمعن وتأني في دلالتها حتى يحسن تنزيلها في موقعها.

7 - لم يتعهد ربنا سبحانه وتعالى لنا بالسلامة من الآفات والكدر في هذه الدنيا، بل على العكس فإن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كثيرة في أن الابتلاء محيط بالإنسان في حياته، وهي أهم مقاصد تقلبات الدنيا وما فيها، قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} [هود: 7]، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].

بل أقسم الله تعالى أن البلاء محيط بالمؤمنين فقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] هذا ابتلاء كوني وهناك ابتلاء تكليفي يتعلق بمدى التزامنا بالأحكام الشرعية وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94].

8 - وجاءت السنة النبوية تبين أثر هذا الابتلاء على المؤمن ومن ذلك ما أخرجه احمد في المسند وأبو داود وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم (إِذَا سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِنَ اللهِ مَنْزِلَةٌ ، لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ، ابْتَلاَهُ اللّهُ فِىِ جَسَدِهِ ، أوْ فِي مَالِهِ ، أوْ فِي وَلَدِهِ ، ثُمَّ صَبَّرَهُ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ)

ومثل ذلك في حديث سعد بن أَبي وَقاصِ؛ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله ، أَيُّ اَلناسِ أَشَدُّ بَلاَءً ؟ قَالَ : (اَلأنبِيَاءُ ، ثُم الأمثل فالأَمْثَلُ ، يُبْتَلَى اَلْعَبْدُ على حَسَبِ دِينِهِ ، فَإنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلبًا اَشتَد بَلاؤهُ ، وإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقة أبتُلِيَ على حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ ألبَلاَءُ بِالعَبْدِ حَتُّىَ يَترُكَهُ يَمشِي على ألأَرضِ ، ومَا عَلَيهِ مِن خَطِيئَةِ) أخرجه أحمد وغيره.

وقد صح في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة , في جسده , وأهله , وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)

فكل هذه الأحاديث وغيرها تدل على أن هذه الدنيا دار ابتلاء للمؤمن لترتقي درجته عند الله في الآخرة التي لا فناء بعدها ولا موت.

وتدل على أن الابتلاء على قدر الإيمان وأن الصبر على قدر الابتلاء

9 - فالفكرة التي يحاول أن يروج لها بعض قليلي العلم من أن الرفاهية والأمن من البلاء من خصائص وكرامات المؤمن، وأنه إذا نزلت مصيبة فهي عقوبة ليست صحيحة مطلقا ولا تنطبق على كل نازلة، فأصحاب الأخدود كان بلاؤهم من أشد الابتلاءات وهم في قمة الثبات على توحيد الله، وأصيب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة أحد وهو الرسول، وأصيب المسلمون في زمن عمر بن الخطاب بالطاعون شهرا وهم في خير القرون.

10 - إنما يكون أثر الابتلاءات والمحن حسب الشخص المبتلى، فهي للمؤمن كفارة ورفعة في الدرجة وتمحيص من الذنوب وتقريب من الله تعالى، وإن ألم الدنيا ألم زائل يخففه الله على العبد، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين