لعلّ الانتخابات التركية الأخيرة كانت الحدث الأعظم الذي
شغل العالم شرقَه وغربَه، إذ لم تعد تركية دولة من الدول، بل أصبحت من الدول
المؤثرة في السياسة العالمية، كما أن السيد رجب طيب أردوغان لم يعُد مجرد زعيم ينافسه
زعماء آخرون، بل أصبح رمزاً لاتجاه يرضى عنه الشعب التركي الأصيل، وترضى عنه، من
وراء تركية، شعوب العالم الإسلامي، شاء من شاء، وسخط من سخط.
وفي قراءة لهذا الحدث العظيم تبرز أمام المواطن العربي،
في معظم أقطاره، مجموعة من الحقائق:
- المواطن العربي الذي لا يكاد يشهد انتخابات حرّة، بل
تجري الانتخابات، حين تجري، وفق مسطرة الحاكم التي تقرر، قبل بدئها، مَن الفائز
فيها، وما نسبة الأصوات التي سيحوزها... هذا المواطن يرى تجربة باهرة لا يفوز فيها
رئيس الدولة في الجولة الأولى، ثم يخوضها في جولة ثانية فلا تتجاوز الأصوات التي
يحصّلها فوق الـ50% إلا قليلاً.
- إذا كان ظاهر الأمر أن انتخابات الرئاسة كانت تنافساً
بين رجلين، فقد كانت في حقيقتها، تنافساً بين اتجاهين: اتجاه مَن يضع رضوان الله
بين عينيه، ويترجم ذلك في بناء الوطن إنساناً وكرامةً وحريةً وعمراناً ورفاهية وتحصيناً...
واتجاه مَن يريد العودة بتركية إلى الفترة التي كانت فيها ذيلاً لبعض الدول
الكبرى، تأتمر بأمرها، وتنفذ سياستها، وتلتزم بالتخلف والخنوع.
- وإذا كان من حقنا أن نفرح لفوز الطيب أردوغان، وقد
فرحنا، فإن حقيقة صادمة لا يجوز أن نغفل عنها، وهي أن الفريق الذي خسر الانتخابات
لم يكن أقلية ضعيفة، بل إن له جماهيره الكبيرة في بلد كان مركزاً لدولة الخلافة
العثمانية قروناً عدة. فالتغريب والإفساد والتضليل الذي مارسه الحكام بعد سقوط
دولة الخلافة لن تُمحى آثاره خلال سنين قليلة. وإن على الفئة التي تغار على البلد،
وعلى دينه وقِيَمه، أن لا تتوانى عن إعادة المجتمع إلى أصالته، وذلك بأن يعمل كل
فرد، ما استطاع، على تمثُّل الدين الحق في سلوكه، وعلى نشر قيمه السامية، سواء في
الاتصال الفردي المباشر، أو في وسائل التواصل الاجتماعي، أو بأي وسيلة أخرى... حتى
تعمّ المجتمع، وتعود القيم الشاذة منبوذةً.
- على الرغم من مرور نحو قرن كامل على إبعاد تركية عن
دينها، وإغراقها في علمانية سوداء تغشّي مختلف القطاعات والمرافق، فقد أثبت الشعب
التركي، بأغلبيّته، منذ أن اختار حزب العدالة، أن جذور الإيمان عميقة في قلبه، وأن
جهود الإفساد والتغريب، مهما نخرت فيه، فإن ولاءه لدينه هو الولاء الأصيل.
- إن البهجة التي ملأت قلوب المسلمين في كل مكان، يوم
فاز الطيب أردوغان، تثبت أن هذه الحدود التي رسمها سايكس وبيكو ونظراؤهما، بين
ديار المسلمين، إنما هي حدود مصطنعة، قد تقسم التراب والحجر، وتصبغ الأعلام بألوان
متباينة... أما القلوب فقد انغرس فيها الإيمان وتجذّر. ومهما غشّاها من خلل وضعف،
فإن جذوة الإيمان لن تنطفئ فيها.
- أما آن لمن في قلبه حب لوطنه من مفكّرين وسياسيين
وحكّام... أن يفيئوا إلى الله تعالى أولاً، وأن يصطلحوا مع شعوبهم، وأن يعلموا أن
الخير، كل الخير، في أن يستظلوا بظل الله، وأن يحتكموا إلى شرع الله، وأن ينعموا
بحبه وتوفيقه ورضوانه؟!.
(فَمَن اتّبَعَ هُداي فلا يضلُّ ولا يَشقى. ومَن أعرضَ عن ذِكري فإنّ له معيشةً ضنكاً، ونَحشُرهُ يومَ القيامة أعمى). {سورة طه: 123، 124}.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول