قراءة شحرور للقصص القرآني تحريف وتخريف (4)


قراءته لقصة نوح عليه السلام (ج)




مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين

قبل البداية
لا أكتم الإخوة الكرام أن نفسي قد راودتني ألا أبدأ الكتابة في الموضوع، بعد أن تصفحت كتاب شحرور عن القصص القرآني، ذلك أني لم أجد فكراً ولا علماً ولا منهجية.
ومع أن الكتاب قد شارك في إعداده مع شحرور شخصان آخران، فإن الكتاب مهلهل ومفكك ومتهالك من حيث الشكل ومن حيث المضمون.
فالشحرور كثيراً ما يبدأ بإيراد عدد مما يسميه عبراً وعظات، وقد يطرح قضايا إشكالية، ويتساءل أسئلة تافهة ومشككة، وقد يقدم بمقدمات مقبولة ليستنبط منها نتائج مناقضة لتلك المقدمات، ثم يقتبس اقتباسات مطولة من العهد القديم أو غيره من كتب الحضارات السابقة لمجرد تسويد الصفحات، حيث لا يجد القارئ أنه أفاد من هذه النقولات شيئاً ذا قيمة، أو أنها ساعدته في المقارنة، إلا إذا كان يريد أن يجعل من بعض تلك المقتبسات حاكمة ومهيمنة على النص القرآني.
لقد شعرت وأنا أقرأ للشحرور، أنني أمام مستشرق هاو يتحذلق، أو مبشر مبتدئ متحاذق، يتخيل أمامه بعض الصبية أو البسطاء والمغفلين، فيتلاعب برؤوسهم ويشككهم في قرآنهم، ويفهمهم منه عكس ما فيه، ونقيض مراد الله تعالى.
وما زالت الفكرة بالتوقف عن الكتابة تجتاحني وتلح عليّ، وأنا أرى تفاهة ما يكتب، وأشعر بالتقزز، وأحس أني أضيع وقتي وأوقات غيري، ثم أتذكر أن هناك جهات ومؤسسات ووسائل إعلام تروج للرجل وتصفه بالمفكر الإسلامي، وقد لاحظت أن هناك من ينخدعون به وبطروحاته، ولعل كلمة نكتبها تحمي صادقا يحب الدين كاد أن ينزلق، أو تلقن حجة لمناظر، أو تدحض شبهة كادت تزل بها قدم مؤمن، أو تكشف الستر عن مضلل، وتفضح دخيلة منافق مخادع. 


قوانين النجاة


واستمراراً للعرض نتابع أباطيل الشحرور وهو يقول:" تحدث المفسرون بالتفصيل الممل عن أن ركاب السفينة ثلاثة أنواع: الأول يشمل الحيوانات والنباتات ويحكمه مبدأ من كل زوجين اثنين أولهما ذكر والثاني أنثى، والثاني يشمل أهل نوح وهم ثمانية: نوح وامرأته وأبناؤه الثلاثة سام وحام ويافث لكل واحد منهم زوجة، وهذا النوع الثاني يحكمه ما يحكم النوع الأول، أما الثالث فيشمل من آمن بنوح وهم قليل، لكننا لم نسمع أحداً من المفسرين أشار إلى المبدأ الذي يحكمهم أهو مبدأ الإيمان فقط أم هو مبدأ من كل زوجين اثنين الذي حكم النوعين الأول والثاني؟ 
" والسؤال الآن: ماذا يفعل نوح بشاب عازب مؤمن؟ هل يتركه للغرق لأنه عازب؟ أم يحمله معه لأنه مؤمن ليسطو على زوجات الآخرين بعد انحسار الطوفان؟
" وإن كان المعيار في الدخول إلى السفينة هو الإيمان فلماذا حمل نوح امرأته وقد ضربها الله في كتابه مثلاً للذين كفروا ولم يحمل ابنه؟ والأهل هم الزوجة والأولاد، وابنه ممن سبق عليه القول لأنه ليس ابنه"[1].
بداية فإن شحرور يتظاهر بأنه يناقش المفسرين الذين صب جام غضبه عليهم في فقرة سابقة وفي أماكن عديدة من كتابه، ثم إذا به يتلاعب بالآيات الكريمة تشكيكاً وتشويها لنوح وبيته، وقبل ذلك وبعده حكمة الله تعالى وكتابه.
وقد تحدث شحرور عن الموضوع مرة ثانية بقوله:" لقد حمل نوح معه في السفينة مجموعة من المؤمنين وأهله إلا من سبق عليه القول، أي أن ابن نوح ليس من أهله، والاحتمال وارد بأن ( نوحاً)[2] كان (أباه)[3] ولكن ليس والده، لأن امرأة نوح كانت من الكافرين ولم تقم لنوح أي عهد، وكذلك امرأة لوط حيث قال تعالى عنها:? إلا امرأتك فإنه مصيبها ما أصابهم?[ هود:81]، أما عن امرأة نوح فلم يذكر أنها هلكت مع قومه لأنها من أهله ووعده الله بأن ينجي أهله"[4].
إنه لا إشكال في النص؛ فالإيمان هو معيار دخول الناس السفينة، وهو يشمل أهل نوح وليس لهم معاملة خاصة ولا قانون خاص، والزوجية تتعلق بالمخلوقات الأخرى من غير البشر ممن أمر الله نوحا بحملهم، يؤكد ذلك قوله تعالى: ? حَتَّى? إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ?[ هود: 40]، فالعطف هنا ليس عطف تغاير بل عطف العام على الخاص، فأهل نوح بعض المؤمنين، وربما خص أهل نوح بالذكر إكراماً لنبيه أو إشادة بهم لأن غالبيتهم من المؤمنين، أو لعلهم كانوا غالب المؤمنين، فهم بيت طيب ولا ننسى أن نوحا قد دعا بالمغفرة لوالديه ما يعني أنهما ماتا مؤمنين، ولا يهم أكان ذلك بعد الطوفان أم قبله.
إن الله تعالى لا يفرق بين الناس وليس عنده موازين مختلفة في معاملاتهم كما يريد الشحرور أن يوحي، ويكفي في ذلك الاستثناء الوارد في هذه الآية نفسها ? وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ?، وقوله تعالى: ?ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين ?[ التحريم: 10]، فماذا يريد الشحرور أكثر من هذه الآية ليفهم أن مع كون هاتين المرأتين تحت رسولين كريمين لكنهما ام يغنيا عنهما من الله شيئا واستحقتا دخول النار مع الداخلين.
يقول سبحانه: ? فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ?[ هود: 81] ، فامرأة لوط من أهله بصريح القرآن الكريم إلا أنها استثنيت من النجاة، فلماذا يطبق قانون الإهلاك هلى امرأة لوط ولا يطبق على امرأة نوح؟ 
إن عدم ذكر القرآن لغرق امرأة نوح لا يعني اصطحابها في السفينة كما أراد الشحرور أن يوهمنا، وهي إما أن تكون ماتت قبل الطوفان ولذلك لم يكن داع لذكرها، أو اكتفي باستثنائها مع الذين سبق عليهم القول، ولماذا يكون لها معاملة خاصة ومميزة فتنجو من الغرق في الدنيا، ولا يكون لها تلك الخصوصية في الآخرة حيث ستدخل النار مع الداخلين؟.
إن مشكلة الشحرور هي في أنه يتحاذق ويتفاصح ظنا منه أن القراء مغفلون أو بسطاء، فهو يضرب آيات الله بعضها ببعض، بدلاً من أن يفسر القرآن بالقرآن، ليتكشف له ما غمض منه، ويتضح الملتبس، مع أن الاضطراب الحقيقي هو في عقله وقلبه وليس في التنزيل الحكيم.


ابن نوح وامرأته


ثم نأتي إلى استشكال شحرور بالنسبة لابن نوح، حيث يحاول أن يلعب لعبة قذرة ليوحي للقراء بما سبق ونفاه أهل العلم، ولكن بطريقة غير مباشرة كيلا يثير ضده ثائرة القراء وأهل العلم وذلك في عبارته السابقة:"" وإن كان المعيار في الدخول إلى السفينة هو الإيمان فلماذا حمل نوح امرأته وقد ضربها الله في كتابه مثلاً للذين كفروا ولم يحمل ابنه؟ والأهل هم الزوجة والأولاد، وابنه ممن سبق عليه القول لأنه ليس ابنه""، وقوله:" أي أن ابن نوح ليس من أهله، والاحتمال وارد بأن ( نوحاً) كان (أباه) ولكن ليس والده، لأن امرأة نوح كانت من الكافرين ولم تقم لنوح أي عهد".
إن النص القرآني أثبت أن الولد هو ابن نوح ? ونادى نوح ابنه ?، لكنه نفى أن يكون من أهله الذين وعدهم بإنجائهم، بل هو من الذين سبق عليهم القول، ولا داعي لفذلكة الشحرور وزعمه أن نوحا هو أبوه وليس والده، بمعنى أن نوحا مثلا هو من يربيه وهو ولي أمره والولد تحت سيطرته، ذلك أن كلمة الأب في القرآن واللغة قد تشمل العم والجد والأب البعيد والسيد والأب الديني وكبير القوم بالإضافة إلى الوالد، لكن لفظة الوالد تختص بالأب البيولوجي الذي هو سبب إنجاب الولد.
وكذلك لا معنى لتلميحات الشحرور بأن امرأة نوح قد زنت وأن هذا الولد هو ابنها من الزنا، بقوله إنها لم تقم لنوح أي عهد، وحتى لو صح ذلك وليس بصحيح، فلم يعاقب ابنها، ومن قال بأن ابن الزنا عقوبته النار؟ والقانون الرباني أنه لا تزر زازرة وزر أخرى.


العزاب في السفينة!!


خلال استهبال الشحرور أو تحذلقه أثار التساؤل الآتي:" " والسؤال الآن: ماذا يفعل نوح بشاب عازب مؤمن؟ هل يتركه للغرق لأنه عازب؟ أم يحمله معه لأنه مؤمن ليسطو على زوجات الآخرين بعد انحسار الطوفان؟
وقد تفتقت عبقريته الفذة عن هذا الإشكال الذي اختلقه من أوهامه وكأنه حاول الإيهام بأن أمر الله لنوح هو الذي أدى إلى هذا الغموض والإشكال، وقد أثار هذا التساؤل وهو يثير إشكالية قانون النجاة هل هو الزوجية أم الإيمان، حيث لا لبس في الأمر ولا إشكال إلا ما كان في قلب الشحرور، وقد سبق القول بأن معيار الاصطحاب في السفينة للناس هو الإيمان، والمعيار بالنسبة للكائنات الأخرى هو الزوجية والآية في غاية الوضوح.
ولكن يفجعنا الشحرور بما لا يخطر ببال حين يتساءل عن الشاب العازب المؤمن:" أم يحمله معه لأنه مؤمن ليسطو على زوجات الآخرين بعد انحسار الطوفان؟.
لا أدري كيف يفكر هذا المخلوق، ولكن أذكر أنه وصف القصاص وأصحاب الروايات الإسرائيلية في تعليقه على قصة يوسف بأنهم أصحاب " مخيلة مريضة"، فهل كان يتحدث عن نفسه أيضا، إن الشحرور لا يتخيل اجتماع رجل وامرأة إلا ويؤدي بالضرورة إلى العلاقة الجنسية بينهما، وقد نقلنا قوله في الحلقة الأولى والتي كانت عن قصة يوسف حيث زعم بأن الغريزة الجنسيبة قاهرة ويستحيل النجاة منها إلا بمعجزة تعطل القدرة الجنسية.
فالشحرور مسكون كما يبدو بالجنس مهووس به، ويريد أن تنتقل عدواه إلى القراء، ولعله يعاني عجزا أو مرضا من نوع معين، ويكثر من الحديث عن العلاقة الجنسية من باب التعويض كما تقول مدرسة التحليل النفسي.
ثم من أدرى الشحرور أن هناك فائضا من الذكور، ولم لا تكون نسبة المؤمنات هي الأعلى، والنساء أرق قلوبا وأقرب إلى الإيمان من كثير من الرجال، وبالتالي يكون للرجل الواحد أكثر من زوجة.
ثم كيف يتحدث عن مؤمنين تحدوا مجتمعهم وهم قلة قليلة وتحملوا كل المعاناة في سبيل الإيمان؟ ولو أرادوا الفجور لكان أسهل لهم الذوبان في المجتمع من قبل. 
وبهذه المقالة أكتفي بالتعليق على قراءة شحرور لقصة نوح عليه السلام، وإلى الملتقى بإذن الله تعالى.

________________________________________
[1] ) شحرور، القصص القرآني، 2/ 45-46.
[2] ) في الكتاب: نوح
[3] ) في الكتاب: أبوه.
[4] ) شحرور، القصص القرآني، 2/55.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين