قتلَ الله مَن قتل بتنطّعه أهلَ الشام

نشرتُ قبل أربعة عشر شهراً مقالة بعنوان "قتل الله من قتل بجهله أهل الشام"، أخذت عنوانها من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام على الجَهَلة المتنطّعين الذين استفتاهم صاحبُهم والتمس عندهم رخصة فلم يرخّصوا له فمات، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قتلوه قتلهم الله". خاطبتُ فيها قوماً جاهلين أو مكابرين، يريدون حمل أهل الشام على العزائم وإلزامَهم بمشروعات خيالية عجز أصحابُها عن تحقيقها في بلدانهم، ولا يبالون -في سبيل تحقيقها في الشام-  بدماء أهل الشام وما يصيبهم من مِحَن وآلام.

 

ولو أنهم استجابوا للمقالة الأولى فتركونا وثورتَنا وجهادَنا لما اضطَرّوني إلى إعادة الخطاب بهذه المقالة. على أني لن أوجّهها هذه المرة لمَن قتل أهلَ الشام بجهله، بل لمن يقتلهم بتنطّعه وتكلّفه. أوجّهها إلى الذين دمّروا بجهلهم وتنطعهم وغلوّهم ساحات جهاد سابقة، ثم ما يزالون يكابرون ويصرّون على الجهل والتنطع، فكأنهم لا يبالون بالمسلمين أن يتعرضوا بسببهم للكارثة بعد الكارثة، أو كأنهم ماتت ضمائرُهم فلا يتعرضون لتأنيب الضمير.

 

*   *   *

 

عندما أتابع فتاوى بعض المتنطعين المتكلفين أكاد أحس أن عندهم نسخة من القرآن فيها حرف ساقط من آية المائدة، فهي في مصحفهم: "يريد الله ليجعل عليكم من حرج"، وهي في مصاحفنا: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}. وعندهم: "يريد الله بكم العسر ولا يريد بكم اليسر"، وعندهم: "لا يكلف الله نفساً إلا فوق الوسع"، وأيضاً: "فاتقوا الله فوق ما تستطيعون"... ومثل هذا في مصحفهم -كما يُخيَّل إليّ- كثير!

 

ألا يتقون الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ ألا يتقون الله في أهل الشام؟ أما لهم قلوب؟ لو كانت لهم قلوب تحسّ وتشعر ورأوا ما نزل بأهل الشام من البلاء لالتمسوا لهم الرخصةَ بعد الرخصة، ولكنهم لا يفعلون، ولا يرضيهم إلا أن يحملوا أهل الشام على عزيمة أقالهم الرحمنُ الرحيم منها وجعل لهم فيها فسحة؛ يقولون لهم: عليكم واجب لا نجد لكم فيه رخصة. واجبٌ عليكم قتالُ نظام الأسد والمليشيات الحليفة الطائفية في الشام وقتالُ إيران ووقفُ التمدد الشيعي الفارسي في بلاد الإسلام، ومحرَّمٌ عليكم تلقي الدعم من أي مكان، ولو كان دعماً غيرَ مشروط بأي شرط كان. واجبٌ عليكم تكفير واستعداء حكومات الخليج وتركيا وسائر حكام بلاد العرب والإسلام، وإنّ تحالفكم مع الأتراك لقتال المسلمين حرام وإجرام!

 

أتعلمون مَن المسلمون الذين لا يجوز أن نحالف تركيا ضدهم؟ إنهم خوارج العصر، الدواعش! لقد بلغ الغلوّ والتنطع بهؤلاء الناس أن يَعدّوا داعش في المسلمين ويَعدّوا الدولة التركية في المرتدّين. لماذا يا فقهاء الزمان؟ قالوا: لأن الدولة (أي داعش) تحكم بالإسلام وإن ظلمت، وهؤلاء يحكمون بغير الإسلام وإن عدلوا. فالميزان عندهم هو الظاهر الخدّاع الذي ما عاد ينخدع به حتى الأطفال! أمَا علموا أنه لا يستوي عدمُ الحكم بالإسلام في حالة العجز عنه، والظلمُ والبغيُ مع القدرة على العدل والإحسان؟ ألا يعلمون أن دفع الضرر المحقَّق الذي يفتك بالثورة اليوم مقدَّمٌ على دفع ضرر متوهَّم قد لا يأتي في أي يوم من الأيام؟ على هؤلاء الجَهَلة المتنطعين السلام.

 

*   *   *

 

لم يُثِرْ عجبي في الأيام الأخيرة شيء أكثر ممّا أثاره النقاشُ الذي جَرّنا المتنطعون إليه: هل الاستعانة بإخواننا الأتراك في قتال خوارج داعش حلال أم حرام؟ ما هذا هو السؤال الصحيح، السؤال الذي كان ينبغي أن ننشغل به هو: هل هذه الاستعانة جائزة أم واجبة؟ وعندي أن الجواب محسوم: إنها واجبة على مجاهدي الشام، ومَن فرّط فيها فإنه يحاسَب ويُلام لأنه يتسبب في إرهاق أهل الشام وفي تطويل المعركة مع النظام.

 

ألا ليعلم المتنطعون أن مجاهدي الشام أغيَرُ منهم على الشام وأهل الشام وجهاد الشام، وأن من حقهم أن يجتهدوا فيما من شأنه تقصير المحنة وتخفيف الكرب عن الناس، بل إنهم يأثمون لو استطاعوا أن يفعلوا ثم لم يفعلوا. وليعلموا أن مجاهدي الشام حملوا السلاح لإسقاط النظام وتحرير الشام من احتلال النظام الأسدي الطائفي، لا لقتال العالم وإعلان الحرب على دول الكفر والشرك والنفاق في شرق العالم وغربه. فمن كانت له رغبة في محاربة العالم فليصنع من غير أرضنا وفي غير معركتنا، لا نمنعه ممّا يهوى ولا يفرض علينا ما لا نريد.

 

*   *   *

 

لا ينقضي العجب من أولئك الذين يبالغون في تحميل أهل الشام أثقلَ الأحمال وهم يُمضون أعمارهم في الرخاء والأمان، الذين بُحَّت أصواتُنا في التحذير من داعش والدعوة إلى قتال داعش يوم كانوا يدافعون عنها ويتعذّرون لها الأعذار، والذين يخذّلون اليوم عن قتال داعش مع إخواننا الأتراك لأنهم يرون حكومتَهم حكومةَ كفر ورِدّة ويرون الدواعشَ بغاةً من المسلمين. ساء ما يحكمون!

 

في الحديث الصحيح: "هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون"، كررها نبيّ الله عليه صلاة الله وسلامُه ثلاثاً لأنهم -من تنطّعهم- لا يسمعون. لو كانوا هم الهالكين فحسب لهان الخطب، ولكنهم يعيشون آمنين ويريدون أن يُهلكوا بتنطعهم أهل الشام. قتل الله مَن قتل بتنطّعه أهلَ الشام.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين