قبل أن تنزل بساحتك المنايا

قال اللَّهُ تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}. سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: الآية/ 30

تأمَّلْ قولَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}، بعد قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، لتعلم كَمَالَ رَأْفَتِهِ تعالى بعباده، وَكَمَالَ رحمته تَعَالَى بِهِمْ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ تَعَالَى بِهِمْ، تَحْذِيرُهُ إِيَّاهُمْ نَفْسَهُ، وَتَخْوِيفُهُمْ عُقُوبَتَهُ.

فَمِنْ رَأْفَتِهِ تَعَالَى بعبادهِ: إرسالُ الرسلِ، وإنزالُ الكتبِ، وتبيينُ معالمِ الحلالِ والحرامِ؛ كما قال تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}. [النِّسَاءِ: 176] أَيْ: لِئَلَّا تَضِلُّوا.

وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ الخلقَ إلا ليرحمهم؛ قال تعالَى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}. سُورَةُ هُودٍ: الآية/ 118، 119.

قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ وَلَمْ يَخْلُقْهُمْ لِلْعَذَابِ.

وَعَنْ طَاوُسٍ؛ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فَأَكْثَرَا، فَقَالَ لهمَا: اخْتَلَفْتُمَا فَأَكْثَرْتُمَا!

فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: لِذَلِكَ خُلِقْنَا.

فَقَالَ طَاوُسٌ: كَذَبْتَ.

فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}؟

قَالَ: لَمْ يَخْلُقْهُمْ لِيَخْتَلِفُوا، وَلَكِنْ خَلَقَهُمْ لِلْجَمَاعَةِ وَالرَّحْمَةَ.

وَاللَّهُ تَعَالَى غنيٌّ عن العباد وعن عبادتهم، يرضى منهم بالقليل من العمل ويتجاوز لهم عن كثير من الزلل، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر؛ قَالَ تَعَالَى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}. سُورَةُ النِّسَاءِ: الآية/ 147

وَاللَّهُ تَعَالَى أَرْحَمُ بِالعِبَادِ مِنهم بأنفسهِم، بل أَرْحَمُ بهم من الأُمِّ الرَّؤُومِ بِوَلَدِهَا؛ عن عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ، تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟» قُلْنَا: لَا، وَاللهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا». رواه البخاري ومسلم

فيا عبد الله احذر أسباب سخط الله تعالى، فإنما خلقك لعبادته، واعلم أنه لا يهلك على الله إلا هالك، فسدِّد وقارب، وبادر إلى رضوانه قبل أن تنزل بساحتك المنايا.

اللهمَّ خذ بنواصينا إليك، ورُدَّنَا إليك ردًّا جميلًا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين