قاضي عسكر والثورة الحلبية ضد الفرنسيين (5)

 

نهج الثوار في جهادهم نهج حرب العصابات، يستطلعون ساحات الوغى، وعيونهم ترسل لهم الأخبار تترا، فينطلقون من قاعدتهم باتجاه هدف مرسوم في محيط حلب وما حولها، ثم يعودون من حيث انطلقوا. وحفاظا على أرواح وممتلكات المواطنين، فقد نأوا بأنفسهم أن يكونوا جبناء، فيختبؤوا بينهم، بل حرصوا أن لا يبيتوا في الأراضي السورية، ولو كلفهم تعبا ومشقة.

(استراحة محارب - وقصة بساتين المخاضة)

وفي إحدى جولاتهم الحربية، كانت لهم استراحة قصيرة بظاهر حلب، وتحديدا في محيط(باب الله) وهي قرية أثرية قديمة، تقع خارج أسوار المدينة القديمة، وأصبحت الآن حي"الشيخ فارس" لوجود تربته فيها. وإلى شمال غرب، كانت تمتد البساتين على ضفتي نهر قويق قبل أن تزال برعونة. وفي هذا المحيط، تتعدد أسماء تلك البساتين ، وكنا نعرفها ببساتين (المخاضة) أتدرون لم سميت بذلك؟

لأننا كنا إذا سرنا في طرقاتها، لا بد أن نخوض بالماء لغزارة مياهها، وأشهرها بساتين (الجامگيّة: أو الجامقيّة):- والحلبيون يحرفونها إلى (جانكية).

(موقف جهادي أخلاقي):

وبعد عودته من معركة ضد الفرنسيين، حط رحاله داخل بساتين المخاضة، كاستراحة محارب، ورفاقه الثوريون كما في كل الثائرين، ليسوا سواء في الخلق والدين، فقد وقعت مخالفة أخلاقية من بعض الئائرين - كما حكتها عجوز أرمنية ، وسمعتها من أكثر من واحد، بما فيهم عمي وأبي وجدتي- وهذه المخالفة :

- أن القاطنين في محيط هذه المنطقة تجمعٌ من الأرمن المهاجرين، وربما بعض الجنكلة، فتسلل بعض الثائرين الجهلة إلى بيوت بعض هذه الأسر، وغصبوهم بعض الجواهر والذهب من الحلي، نزعا من معاصمهم وجيادهم، وكان الحلبيون -عموما -، يعرفون الكثير عن شمائل شيخ المجاهدين، وأنه لا يضام بجانبه أحد، فهرعوا مستجيرين به : " لقد سرق الثوار حُلينا! ".

وعلى الفور، استدعى رفاقه، فحقق معهم، فاعترف السارقون، ورد الحلي إلى أهله، فأنبهم، وقال لهم: " أيها الثوار! نحن ثرنا ضد الظلم، لا لجاه ومال، وها أنتم تظلمون؟".

ثم حذرهم أن تتكرر هذه العملية.

وبقيت العجوز تتغنى بهذه المأثرة طيلة حياتها وهي أرمنية الدين والطائفة. فما أشبه الليلة بالبارحة ! وبضدها تتميز الأشياء.

(تحقيق تاريخي):

وللأسف من يكتب عن بساتين الجامكية، يكتبها محرفة، والحقيقة هي- كما قال الأسدي- من التركية عن الفارسية: جامَگي: الراتِب، المعاش، الأجر، الإنعام، الهدية. وأصلها: من(جامَه): القيمة. و(گِي): أداة النسبة الفارسية.والجمع عندهم: الجامْگيات. استعملت في العهد الأيوبي".

وربما جاءت التسمية - كما كتب بعضهم- من: أن (شانغهاي) صناعة الأسنان الذهبية في العالم، كان في حلب في منطقة بستان(الجامكية) وعلى المحرفة (جانكية) فجاءتها التسمية من(الجنكلة)-وهم القرباط كما يقول الحلبيون-.حيث جاء في مقال نشرعلى موقع(سيريا نيوز) أن بستان الجانكية كان منطقة تمركز للقرباط، وأبناء عمومتهم من النورعلى مشارف حلب خارج الأسوار.

وثمة عائلة الجانكية، فيهم القضاة والعلماء والأدباء. وهل هذه العائلة أخذت اسمها من الجامكية، أم من الجانكية؟ فهذا يفتقر إلى بحث ودراسة.

وقد مسحت هذه البساتين من الوجود، حين زحف البنيان إليها بدءا من أرض العجور، التي تقع شرقي الميدان، تزرع العجور، حيث ابتدأ العمران فيها عام 1936. فبنيت فيها مساكن شعبية.

(معركة المسلخ)

وتلك معركة مشهودة لدى الحلبيين الأصليين، كتب عنها المورخ الأديب الحلبي أحمد رضا في كتابه عن رجالات وطنية سورية، وقرأتها فيه، ونشرتها جريدة الجماهير، كما أنني أُلقيتْ أحداثها على مسمعي من الكبار-علماء ووجهاء- وسأخط هنا ما علق بالذاكرة، ومالم أذكره، فيذكرني به من عقل منها مالم أعقل.

جغرافية مجرياتها، حي قاضي عسكر ومحيطه، حيث إن المحتل الفرنسي قد اتخذ عملاء من بني جلدتنا، وسلمهم مناصب هنا وهناك، فكانوا أكثر ضررا وفتكا بالمواطنين، وكان من حظ حينا أن نصَّب المستعمر مديرا للمخفر ورئيسا للدرك، من كان ألد خصومنا، وأبعدهم عن الخلق والدين، أشبه بأبي جودت في مسلسل باب الحارة، وزيادة أنه كان يكثر من سب محمد نبينا، لأنه لم يكن من ملتنا، وتمادى في طغيانه، حتى لم يدع امرأة يسقط نظره عليها، إلا تحرش بها، فضاق أهل الحي ذرعا، فأبرقوا إلى شيخ المجاهدين : واشرفاه واكرامتاه!!!

فجهز حملة ليؤدب هذا العلج، ويلقن من تسول له نفسه من أشباهه درسا يهز كيانهم، المسافة بعيدة، وقواعد المحتل مبثوثة في كل مكان، والمداهمات لا تتوقف، فنشر عيونه تحريا للطريق التي لا يمكن للمحتل أن يفكر فيها، حتى إذا اكتملت الخطة، زحف ليلا، فكلما صادفه خط من خطوط اتصال العدو قطعه، وفي الهزيع الأخير من الليل، كان قد بلغ الهدف، وهو مقر العلج الذي يعيث في الحي فسادا، فانقض الثوار على حرسه، وجردوهم من أسلحتهم، ثم كمموا أفواههم، والقوهم بغرفة من غرف المخفر، ورئيس الخفر نائم في مكتبه، فرفس شيخ المجاهدين الباب برجله مرات، ففزع العلج، وهب مذعورا من مرقده، وهو يسب حراسه ويهدد، فقال له من وراء الباب:" أتفتح أم أفتح؟"

فقال: من أنت؟

فقال له: عبد القادر حجار.

فلم ينس ببنت شفة، ولم يقوَ على فتح الباب، وهو بين المصدق والمكذب، وفجأة فُتح الباب عنوة، وأمسى وجها لوجه مع مرعبهم، ومن يقض مضاجعهم، وقيل لي: إنهم كانوا يهلعون إذا ذكر اسمه في مجالسهم.

وتأكد العلج أنه هالك لا محالة؛ فالتمس العفو، عفو يائس قانط، فلم يجدِ. وعاجله شيخ المجاهدين بقوله: "ستموت موتة عادلة، افتح فمك القذر الذي كان يسب محمدا نبينا، حتى أفرغ رصاصات مسدسي"

ثم خلَّفه في مكتبه غير مأسوف عليه. ومما يحز في نفس كل وطني أن الدرك كانوا من أبناء وطننا، قد تطوعوا في جيش المحتل، بدافع العوز أو الجهل والطيش، كأبي جودت ومن معه كما صوروا في باب الحارة.

- فهل يقتلهم؟

عفا عنهم بغية أن يثوبوا إلى رشدهم، فيروى: أنه أوثقهم، وساقهم إلى مغار ة في منطقة (ضهرة عواد) فألقاهم فيها، ليكونوا عبر ة لمن وراءهم.

وقفل إلى قاعدته سالما.

وفي صباح تلك الليلة، كانت المفاجأة السارة، رئيس المخفر محمول على النعش إلى مثواه الأخير، فعرفوا أن من استغاثوا به لبى النداء، وخلصهم من عميل أشد خصومة وعداء من المحتل.

( وقع في كمين )

ما كل معركة تكلل بالنجاح... وفي إحدى معاركه نصب له كمين، فتفرق رفقاؤه، وذهبوا عبابيد، ولم يبق معه سوى رفيق واحد، وكمية كبيرة من الذخيرة، فأصبح بموقف يتطلب قرارا شجاعا، وحكيما، ويدور برأسه: إما حياة تسر الصديق، وإما موت الشموخ والإباء.

فالتجأ إلى تل طبيعي يحمي ظهره به، وقبض على بارودته، وقال لرفيقه:

أنت ذخِّر لي ، وعليَّ الباقي"

وبدأت المعركة، طلقة منه، ورشقات من الحامية الفرنسية، كل طلقة منه تردي فرنسيا قتيلا، حتى وصل العدد زهاء خمسين، فظن العدو أن وراءه جيشا قد لا يصمدون أمامه، فولَّوا مدبرين، ونجا بقدرة الله، ورجع إلى قاعدته سالما.

ودارت الأيام، حتى إذا دخلت سورية عهد الانتداب، أصدرت فرنسا مع حكومة الانتداب قرارا بالعفو عنه، وعن الزعيم فاتح المرعشي، فقرر العودة إلى وطنه، فحدا به الشوق إلى مسقط رأسه، وملاعب الصبا، فانتزع نفوس زوجته التركية وأولاده منها من النفوس التركية، ورجع بهم، بتعهد من حكومة الانتداب، فلم يلبث حتى استدعي من قبل النائب الفرنسي بحلب ، ومقره – يومئذ- خان الكمرك.

[1] تبعد(25)كم إلى الشمال الغربي من مدينة جرابلس السورية

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين