قاضي عسكر والثورة الحلبية ضد الفرنسيين (4)

 

تاريخ الاحتلال الفرنسي:

وبدأ الاحتلال أو الانتداب أو الاستعمار الفرنسي على سورية عام(1920)مـ في اليوم الرابع والعشرين من شهر تموز، بعد أن هزمت قوات المملكة السورية في معركة ميسلون، وأقرت عصبة الأمم الانتداب رسمياً على سوريا عام:(1922)ـ واستمر احتلال فرنسا عليها حتى عام( 1946)م في اليوم السابع عشر من شهر نيسان.

وكان شيخ المجاهدين-حينئذ-طفلاً،يبلغ من العمر(8)سنوات، ولما بلغ(16)سنة قتل ضابطا فرنسيا- كما أسلفنا-، فزُج بسجنهم، كما أخبرني والدي- وكانت الشرارة لثورته ضدهم.

ثورة الحلبيين :

وثورة الحلبيين على الفرنسي المحتل- في تضاعيفها دروس ثورية، يفتقر إليها ثوار اليوم، فأولئك كانوا منشَّئين على الخلق والدين فطرةً، ومجتمعهم بشرائحه المختلفة، محكوم بها. أما اليوم: فقد تغير كل شيء، فلم نجد بين الناس توحد في الخلق والدين، فهم مختلفون في الأهواء والأمزجة، وفيهم جَراءة -على بعضهم- غير منضبطة، فهذا يخوِّن ذاك، وآخر يشتم غيره، وآخر يستحل دم أخيه، وهلم جرا. والطيب فيهم شغوف بالمظاهر، وحب الشهرة، يركن لظهر قد حوله عبد لأهدافه.

بينما لم نسمع أن أحدا من الثوار ضد الفرنسيين، قد نال من أحد، أو لهث وراء مال أوجاه، أو ذلت نفسه لشهرة، بل كانوا يغضبون، لو سأله أحد:(قص علينا ما فعلت)، ثم رحلوا مغمورين، ولم ينصفهم أبناء جلدتهم، والعدو لمَّع من شاء، خدمةً لأغراضهم.

(تقصير المؤرخين الثلاثة):

ومن المؤسف: أن ثلاثة من المؤرخين الحلبيين حديثا، لم يدونوا في كتبهم عن الثورة شيئًا- وهم الغزي والطباخ والأسدي- وبقيت أحداثها في ذاكرة المعاصرين لها، ولم يبق- اليوم- منهم أحد. ألم يعاصروا ثورتهم؟! بلى . فكيف لم يدونوا ما سمعوا أو شهدوا.؟!

وفي عقد الثمانين، أرسلت وزارة الإعلام وفدًا إلى بيت شيخ المجاهدين، برئاسة الإعلامي(لطفي لطفي) ومعه كادر تصويري كامل، ليجري حوارا يستجلي حياة هذا القائد الفذ، فلم يظفر بمتحدث يجيب على أسئلته، سوي عمي(منصور) -رحمه الله- وفي النهاية ختم حواره بسؤال: كيف مات شيخ المجاهدين؟ أتعتقد دس له السم من قبل حكومة الانتداب ليتخلصوا منه؟. فأجابهم: لا أعلم شيئا. وسوف أقص ما علق بذاكرتي مما سمعت-لاحقا.

وأُثر عن جدي: أنه كان أَمْعَزَ الرَّأْي- أي: صلبا شديدا. ويَمْعَزُ إذا سئل عن معاركه ضد المحتل، ويكفهرّ في وجه سائله، كما يكره التحدث بمثل هذا، ويقول: "عيب أن يحدِّث المرء عن أعماله، فهذا من طبع الصبيان، فعَمَلنا واجب- دينا ووطنا- فإذا أشهرناه، كان رياء وسمعة، ولا ثواب لنا عند الله".

هذا ما سمعته عن مشايخنا - كالشيخ أديب حسون وعبد الرحمن جذبة وغيرهما- وكبار الحي، وهم كثيرون، حين أسألهم :

-"لماذا لم يحدث جدي عن أعماله ويحكيها لكم؟".

وهكذا الكبار.

المجاهد (قدور حلاق):

وعودة إلى قصة الهروب من السجن، فقد نجح جدي في عملية الهروب، فلما سمع بها رجل من رجالات حلب- وكان مسجونا- ففكر بحيلة يهرب عبرها من السجن،فلم يجد سوى الكهريز منفذا للهروب، يعني( الصرف الصحي). ويدعى (قدور حلاق). فلما فر عبر كهريز السجن، أطلق عليه الحلبيِّون أسم (قدور جردون) ثم التحق بجدي مجاهدا معه، وفي طفولتي قابلتني جدتي معه، وكان شيخا كبيرا. وقالت لي: (هذا قدور جردون).

لم يمتعض من لقبه هذا، بل أبدى لها كل التقدير والاحترام. أتدرون لماذا؟ ...لأنه لقب ظاهره قبيح وباطنه عظيم. يحمل تاريخا مشرفا.

وثمة خطأ تاريخي في موسوعة الأسدي- حين خلط بين شخصيتين، ولم يتعقبه الأستاذ محمد كمال- حيث جعل الهارب من سجن الفرنسيين عبر الكهريز هو جدي. وهذا خطأ فاضح، لأن الحلبيين يعرفون القصة جيدًا، ويتنادمون بحكايتها في منتداهم. إذ جاء في موسوعته- ص:(164) قدّور جردون: اسم سجين هرب من السجن، سابحاً في كهريز السجن، ومنه إلى الكهريز العام". وفي(53)"الجردون : (عبد القادر حجّار) والجردون لقبه، ثائر عنيف اشترك في ثورة (إبراهيم هنانو)لقب بالجردون؛ لأنه هرب من السجن من دورة المياه فيه، حتى الكهريز، ثم خرج من عند جسر الحج". والجردوٓن : تحريف الجُرَذ العربية : ضرب من الفأر الكبير. والجمع عندهم : الجرادين".

لذا ، فإنني أناشد جمعية العاديات المهتمة بهذه الموسوعة القيمة، أن تصحح هذا الخطأ، فهو تصحيف تاريخي، جهلا من الأسدي بتاريخ الثورة ضد الفرنسيين.

(تشكيل قتالي كبير، وفاتح المرعشي):

بعد هروبه من السجن الفرنسي، لا أحد يعلم أين توجه؟... غير أن التوقعات أنه أنطلق تلك الليلة باتجاه قاضي عسكر، حيث بيت أهله، الواقع في زقاق( آل كيتوع) أقاربه، مقابل مخفر قاضي عسكر الفرنسي،وهو بناء أثري. وبجانبه حمام الحشاش، وفرن الطيفور. وكلاهما من أبناء هذا الحي.

وقبلَ الزُّقاق المذكور، بائع الأقمشة الشبلي، وبحذائه القهوة الكبرى المطلة على الساحة الكبرى، ومنها تتشعب ستة مفارق طرقا: وهي المفارق التالية: (الشعار، والمسلخ، وعلم الشرق ، والطبِّيلين، وباب الحديد، والبلاط).

وطبعا،....كان لشيخ المجاهدين رفاق الحارة من الشباب، من ذوي الوطنية والغيرة على بلدهم ضد المحتل الفرنسي، وربما قد شُحنوا بحبس رفيقهم بفكر الثورة والنضال، فشكلوا مجموعة جهادية سرية، وكأنَّ ثمة تنسيقًا بينهم وبينه حين كان حبيسًا. فلما هرب، تجمعوا، فانطلقوا جميعا إلى جهة بعيدة عن أعين الفرنسيين وعملائهم في البحث عنه.

وما سمعته من المعاصرين له، وحكته جدتي الحلبية: أنه ومجموعته توجهوا إلى مدينة (نِزَب) التركية الحدودية، حيث لم ترسم الحدود بين سورية وتركية بعد . وثمة، تواصلوا مع الزعيم الوطني(فاتح المرعشي) أحد قادات الثورة السياسيين، وأحد الممولين لها. حيث كان من الباشوات الوطنيين المشهود لهم.

(وعي الثوار):

ومما انتهجه الثوار، أنهم لم يختبؤوا في البيوتات ويتترسوا بالمدنيين، كما يفعل بعضهم- علما بأن الحلبيين يومئذ يستقبلونهم بصدر رحب، - عن رضا منهم- ويفدونهم بنفوسهم وأهليهم، لأن العدو عدو بإجماع الشعب، فهو محتل أجنبي غاشم. فكانوا أكثر وعيا، فلم يتسببون بإضرار أحد من المدنيين، ولم ينفذوا أية عملية إلا إذا ضمنوها، دونما إضرار بأرواح المدنيين، وممتلكاتهم. وهذا يعلمه القاصي والداني والصغير والكبير بمدينة حلب من أبنائها الأصليين .

(فاتح المرعشي) :

ولد عام 1885مـ توفي في(3)تموز، سنة(1954)مـ..حلبي من أسرة عرفت بالأصالة والأخلاق، كان مزارعا ملاكا للأراضي، عضواً في المؤتمر السوري، في العهد الفيصلي، أوّل من ندد بالانتداب الفرنسي على سورية، وتبرّع لصالح المجاهدين والثوار. كما ساند ثورة هنانو من بدايتها إلى نهايتها، وبعد القبض على (هنانو) هرب إلى تركية، ولم يعد رغم الحكم ببراءته، مؤثراً البقاء وعدم العودة إلاّ عندما تستقل سورية تماماً عن الحكم الفرنسي. واستمر فاتح المرعشي بأعماله الجهاديّة المالية، وهو في الأراضي التركيّة، الأمر الذي أدّى بالسلطات الفرنسيّة الحكم عليه بالإعدام ، إلاّ أنّه لم يأبه بهذا.

(مأثرة لفاتح المرعشي):

عندما حوكم هنانو، وأعلنت براءته، دفع الزعيم(فاتح أفندي المرعشي) كامل أتعاب المحامي فتح الله صقال البالغة ثلاثمائة ليرة ذهبية من ماله الخاص، وقام الشيخ (رضا الرفاعي) بحمل المبلغ، وطلب من المحامي اعتبار هذا المبلغ:“صرّة عرب” ليقبل به بدلاً من مبلغ الألف ليرة ذهبية الذي اتفق عليه هنانو مع المحامي في حال اعلان براءته.

وقبله، كان شيخ المجاهدين (منصور الحجار) محكوما عليه بالإعدام، لقتله الضابط الفرنسي، فعرض مصطفى كمال أتاتورك الجنسية عليه، وعلى جدي فلم يقبلاها، وآثرا العودة إلى سورية .

القاعدة العسكرية للثوار :

بعد هروبه من السجن، غادر شيخ المجاهدين حلب مع رفاقه، ليحل في مدينة (نسيب)، أو( نذب[1]) وهي مدينة في محافظة عينتاب جنوب تركيا. تقع على بعد 35 كم شرق عنتاب. وهي ضمن الأقاليم السورية الشمالية، قبل سقوط الخلافة العثمانية، وبعد السقوط اقتطعت من سوريا، وضمت إلى تركيا، في معاهدة لوزان عام (1923)مـ.

يقول الغزي: " نزب: في غرب خرابة بلقيس. بلدة تعرف باسم نزب من أعمال قضاء البيرة، اشتهرت بوقعتين عظيمتين: إحداهما: واقعة سابور الثاني، أحد الملوك الساسانية مع إمبراطور الروم قبل الهجرة بنحو (176) سنة. والأخرى: معركة دارت رحاها بين عساكر الدولة العثمانية وبين عساكر إبراهيم باشا المصري سنة(1246) وهي الآن بلدة ذات خيرات وافرة". نهر الذهب فى تاريخ حلب (1/ 440)

وثمة؛ كان لقاء التعارف والتعاون مع المناضل الكبير(فاتح المرعشي) الذي غادر حلب، غِب اعتقال المناضل (إبراهيم هنانو) خشية القبض عليه، ذلك؛ أنه كان يموِّل ثورته، ويمد الثوار في سائر الشمال السوري بماله.

فكانت(نزب) القاعدة العسكرية، لانطلاق الثوار تجاه حلب، تنفيذا للعمليات ضد الفرنسيين، واتخذور استراتيجية حرب العصابات في إدارة المعارك، ولم يثبت أنهم اتخذوا مركزا واحدا ضمن الأراضي السورية، لأن الجيش الفرنسي، كان إذا شك بوجود ثائر واحد في مكان قصفه بالطيران، أو رشقه بقذائف مدفعيته، لذلك؛ تجنبًا أن يتضرر المدنيون، من جراء انخراطهم بينهم، وعيون العدو مبثوثة في كل مكان من بني جلدتهم . ذاك هو الفهم والحكمة ...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين