قادة غيروا الدنيا عماد الدين زنكي ( الجزء الثاني )

 

 

فبعد نظر وتمعُّن في هذه النازلة العامَّة قرَّر عماد الدين زنكي العمل في اتجاهين : -

الاتجاه الأول: مناوشة إمبراطور بيزنطة بشنِّ حرب عصابات على معسكره باستخدام المجاهدين المتطوعين في الشام ضدَّ الأعداء بالكرِّ والفرِّ، وإظهار القوَّة و الشجاعة ، و إرسال رسائل تهديدٍ ووعيدٍ لهذا الإمبراطور؛ و هذا على الرغم من الفارق الضخم بين القوَّتين، وذلك من أجل إرهاب البيزنطيين ومنعهم من التقدُّم.

 

الاتجاه الثاني: إيقاع الخلاف بين البيزنطيين والفرنجة؛ فلقد كان عماد الدين زنكي من دواهي العصر ذكاءً وفطنةً وحدَّة بصيرة, فلقد استغلَّ الخلاف المذهبي بين الأرثوذكس والكاثوليك للتفريق بينهما، فأرسل إلى إمبراطور بيزنطة يُخَوِّفُوه من نكصان الفرنجة للعهود وأنهم يتربَّصُون به، فإن فارق مكانه الذي فيه «قلعة شيزر» بالقرب من حماة سيتخلَّفُون عن نصرته . ثم أرسل إلى الصليبيين الفرنجة يُخَوِّفُهم من إمبراطور بيزنطة ، و يقول لهم : «إنْ مَلَكَ بالشام حصنًا واحدًا ملك بلادكم جميعًا» (1).

 

ونجحت خطَّة عماد الدين زنكي ؛ و وقع الخلاف بين الطرفين، وانسحب الإمبراطور من الشام ، و ترك المجانيق وأسلحة كثيرة بحالتها؛ حيث غنمها جيش الشام ، وحرَّرُوا أسرى المسلمين ، وارتفعت مكانة عماد الدين بين المسلمين، وعظمت هيبته في صدور الصليبيين, وأثبت للجميع أنه رجل المهامِّ الصعبة، وقد حاول بعدها فتح دمشق؛ ولكنه فشل لحصانتها وقوَّة حاكمها معين الدين أنر، فلم يستطع عماد الدين تحقيق حُلْمه في أهمِّ مدن الشرق.

 

 فتح الرها

عندما انطلقت شرارة الحملات الصليبية احتلَّ الصليبيون الرها، وأقاموا بها أول إمارة صليبية في منطقة الجزيرة السورية وذلك سنة (492هـ= 1099م). كان أميرها صليبيًّا اسمه «جوسلين»؛ ففهم من تحرُّكات عماد الدين زنكي أنه يُخَطِّط لفتح الرها، فعمد إلى تقوية دفاعاتها، والمبالغة في تحصينها، وظلَّ مقيمًا في الرها لا يُفارقها أبدًا ؛ رغم أن زوجته و أولاده بفرنسا ، و لكنه صبر على فراقهم من أجل الدفاع عن الرها .

 

كان عماد الدين زنكي يعرف قَدْر جوسلين ودهاءه وحُنْكَتَهُ؛ لذلك وضع خطَّة في غاية الذكاء؛ فهو كما يقولون: «لا يفلُّ الحديد إلَّا الحديد». فلقد أظهر عماد الدين أنه مشغول بحرب القبائل الكردية، التي تُسيطر على قلاع كثيرة في منطقة ديار بكر (جنوب تركيا الآن)، ولا تقبل الانضمام لصفِّ عماد الدين زنكي لدواعي عصبية وقبلية، وبالفعل انطلت هذه الخدعة على جوسلين، الذي خفَّف من شدَّة التحصينات، وتراخى في دفاعاته، حتى إنَّه قد سافر لزيارة أهله في فرنسا، وكان عماد الدين زنكي قد بثَّ العيون التي تنقل له الأخبار ليلَ نهارَ, فلمَّا علم مغادرة جوسلين وتراخت الدفاعات، نادى في معسكر جيشه بالاستعداد للهجوم على الرها.

كان عماد الدين من أشجع الناس وأقواهم وأجرئهم في القتال، لا يُجاريه أحدٌ من جنده في ذلك، وقبل القتال وضع عماد الدين مائدته للطعام، وقال: «لا يأكل معي على المائدة إلا من يطعن معي غدًا باب الرها». وهي كناية عن شدَّة القتال والشجاعة؛ لأن طاعن الباب يكون أول فارس في الجيش يصل إلى باب المدينة، ولا يفعل ذلك إلَّا أشجع الناس، فلم يجلس معه على المائدة إلَّا أميرٌ واحدٌ وصبيٌّ صغيرٌ؛ فقيل الأمير للصبي: «ما أنت في هذا المقام؟». فقال له عماد الدين زنكي القائد المربِّي القدوة، الذي يعرف كيف يُحَمِّس الشباب والنشء، ويُحَفِّز طاقاتهم: «دعوه فوالله! إني أرى وجهًا لا يتخلَّفُ عنِّي » (2).

 

وبالفعل أثمرت هذه الكلمات طاقة جبارة عند الصبي، فكان أوَّلَ طاعنٍ، وأوَّلَ بطلٍ في هذه المعركة، وفُتحت المدينة في 6 جُمَادَى الآخرة (سنة 539هـ=1144م), وكان لفتحها صدًى شديدًا في العالمين الإسلامي والصليبي؛ فلقد كان أعظم انتصار حقَّقه المسلمون على الصليبيين منذُ دخولهم الشام منذ خمسين سنة، وأعاد ذاكرة الانتصارات لهم, وسرت رُوحٌ جهادية كبيرة عند المسلمين بعدها، وعادت لهم الثقة، وتغلَّبُوا على الهزيمة النفسية تجاه الصليبيين، والتي أقعدتهم عن السعي للتحرير عشرات السنين .

 

أمَّا الصليبيون فقد نزلت بهم أعظم المصائب ، و فقدوا أهم إمارة صليبية لهم بالمنطقة ، و لقد قاموا بحملتهم الصليبية الثالثة على الشام سنة (542هـ= 1147م) لاسترجاع الإمارة ولكنهم فشلوا .

 

استشهاد عماد الدين زنكي

بعد الانتصار في الرها ضاقت السبل على أعداء الإسلام، وأصبح كيانهم الصليبي بالشام - والذي بنَوْهُ في خمسين سنة- في خطر حقيقي في ظلِّ وجود هذا الأسد الرابض ، و بعد أن أعيتهم الحيل في ميادين القتال ، و صار ينتصر الأسد عليهم في كل موطن من سورية ، قَرَّرُوا اللجوء إلى سلاح الغدر و الخيانة ، و الأيدي القذرة التي لا تعمل إلَّا في الظلام.

 

فكَّر الصليبيون في كيفية التخلُّص من عماد الدين زنكي، وبعد تفكير وتقليب فيمَنْ سيقوم بهذه المهمَّة؛ قرَّرُوا إسناد مهمَّة الاغتيال إلى جماعة معروفة بذلك، وبالفعل وفي 6 ربيع الآخر (541هـ= 1146م) وأثناء قيام عماد الدين زنكي بحصار قلعة جعبر المطلَّة على نهر الفرات، قامت مجموعة من الباطنية بالاتفاق مع الصليبيين -بعد أن قبضوا الثمن- بالتسلُّل إلى معسكر عماد الدين زنكي، واندسوا بين حُرَّاسه، وفي الليل دخلوا عليه خيمته وهو نائم وقتلوه، تُوُفِّيَ عن 64 عامًا ، و دُفن بصفين ، و خَلَفَهُ ابنه سيف الدين غازي في الموصل ، و خَلَفَهُ ابنه نور الدين محمود في حلب ثم في دمشق.

 

وهكذا مات البطل وترجَّل الفارس وحطَّ الراكب بعد حياة طويلة كلّها جهاد وكفاح ونصرة للإسلام وأهله, وبعد أن أحيا ما كان مندثرًا وأعاد ما كان مفقودًا, ووضع الأساس المتين لمَنْ جاء بعده, فرحمه الله رحمة واسعة، وغفر له ما كان من خطايا وزلات .

واسمع ما قاله عنه المؤرِّخُون، قال ابن الأثير في وصفه: « كان شديد الهيبة في عسكره ورعيته عظيم السياسة، لا يقدر القوى على ظلم الضعيف، وكانت البلاد قبل أن يملكها خرابًا من الظلم وتَنَقُّل الولاة ومجاورة الفرنج، فعمرها وامتلأت أهلاً وسكَّانًا، وكان أشجع خلق الله  (3).

 

وقال عنه ابن كثير الدمشقي: « و قد كان زنكي من خيار الملوك، وأحسنهم سيرة وشكلاً، وكان شجاعًا مقدامًا حازمًا، خضعت له ملوك الأطراف، وكان من أشدِّ الناس غيرة على نساء الرعية، وأجود الملوك معاملة وأرفقهم بالعامة  (4).

 

ولعلَّ أكثر ما تميَّز به عماد الدين زنكي عن قادة زمانه هو فهمه لحقيقة المشكلات التي تُعاني منها الأُمَّة الإسلامية، وإحساسه بالمسئولية تجاه أُمَّته، وإيثاره لمصلحتها على مصلحته الخاصَّة، وعمله بمقتضى ما يجب عليه وقتها؛ لذلك فاق ملوك زمانه وعلا ذِكْرُه عنهم، ويكفيه فخرًا أنه قد خلف وراءه بطلاً عظيمًا مثله وزيادة؛ هو نور الدين محمود.

 

و قد لقَّب الناس عماد الدين زنكي بالشهيد لحرصه على طلب الشهادة في كل لقاء مع الأعداء؛ حتى قَدَّرها المولى جل وعلا له في آخر السعي .

 

المراجع :

1 - ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/91.

2 -  ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/131.

3 -  ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/142.

4 -  ابن كثير: البداية والنهاية، 12/275.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين