قادة غيروا الدنيا عبد الكريم الخطابي .. أسطورة الريف -2-

 

سياسة فرنسا مع الخطابي

فُوجئ الفرنسيون بانتصار الخطابي على الأسبان ، و كانوا يتمنَّوْنَ غير ذلك ، كما فُجعوا بانسحاب القوات الإسبانية من إقليم الجبالة كله ؛ لذا قرَّرُوا التدخُّل في القتال ضدَّ الخطابي و لمصلحة الأسبان ، و كانت فرنسا تخشى من أن يكون نجاح الخطابي في ثورته عاملًا مشجِّعًا للثورات في شمال إفريقيا ضدَّها ، كما أن قيام جمهورية قويَّة في الريف يدفع المغاربة إلى الثورة على الفرنسيين و رفض الحماية الفرنسية .

 

و استعدَّت فرنسا لمحاربة الخطابي بزيادة قوَّاتها الموجودة في مراكش ، و بدأت تبحث عن مبرِّر للتدخُّل في منطقة الريف ، فحاولوا إثارة الأمير الخطابي أكثر من مرَّة بالتدخُّل في منطقته ، و كان الخطابي يلتزم الصمت أمام هذه الاستفزازات ؛ حتى لا يُحاربَ في جبهتين ، و يكتفي باستنكار العدوان على الأراضي التابعة له، ثم قام الفرنسيون بتشجيع رجال الطرق الصوفية على إثارة بعض القلاقل والاضطرابات في دولة الريف، فلمَّا تصدَّى لهم الأمير الخطابي تدخَّلت فرنسا بحجة حماية أنصارها ، و اندلع القتال بين الخطابي والفرنسيين في (رمضان 1343هـ = أبريل 1925م) ، و فُوجئ الفرنسيون بالتنظيم الجيد الذي عليه قوَّات الأمير الخطابي ، و ببسالتهم في القتال ، فاضطروا إلى التزام موقف الدفاع طيلة أربعة أشهر، و أُصيبت بعض مواقعهم العسكرية بخسائر فادحة.

استسلام الأمير عبد الكريم الخطابي

لم يَعُدْ أمام الدولتين الكبيرتين (فرنسا وإسبانيا) سوى أن يجتمعا على حرب الأمير عبد الكريم الخطابي ، و أَعدَّتا لهذا الأمر عُدَّته بالإمدادات الهائلة لقوَّاتهما في المغرب ، و الإنزال البحري في مكانٍ قرب خليج الحسيمات ؛ الذي يمتدُّ في قلب بلاد الريف ، وأصبح على الأمير الخطابي أن يُواجه هذه الحشود الضخمة بقوَّاته التي أنهكها التعب والقتال المستمرُّ ، فضلًا عن قلَّة المؤن التي أصبحت تُهَدِّدها .

 

و بالإضافة إلى ذلك لجأت فرنسا إلى دعم موقفها في القتال ، فأغرت السلطان المغربي بأن يُعلن أن الخطابي أحد العصاة الخارجين على سلطته الشرعية ؛ ففعل السلطان ما أُمر به ، كما قامت بتحريض بعض قبائل المجاهدين على الاستسلام ، فنجحت في ذلك .

 

و كان من نتيجة ذلك أن بدأت الخسائرُ تتوالى على الأمير عبد الكريم الخطابي في المعارك التي يخوضها ، و تمكَّن الأسبان بصعوبة من احتلال مدينة أغادير عاصمة الأمير الخطابي، ثم تمكَّنت القوات الإسبانية والفرنسية من الاستيلاء على حصن ترجست، الذي اتخذه الأمير مقرًّا له بعد سقوط أغادير في 11 من ذي القعدة 1344هـ = 23 من مايو 1926م  .

 

و اضطر الأمير عبد الكريم الخطابي إلى تسليم نفسه إلى السلطات الفرنسية باعتباره أسير حرب ؛ و ذلك بعد أن شعر بعدم جدوى المقاومة ، و أن القبائل قد أُنهكت ، و لم تَعُدْ مستعدَّة لمواصلة القتال ، و قد قامت فرنسا بنفي الأمير المجاهد إلى جزيرة نائية في المحيط الهندي .

 

و في تلك الجزيرة عاش الأمير المجاهد مع أسرته و بعض أتباعه أكثر من عشرين عامًا ، قضاها في الصلاة و قراءة القرآن ، و فشلت محاولاته لأن يرحل إلى أية دولة عربية أو إسلامية .

 

 الإقامة بالقاهرة

وفي سنة (1367هـ= 1947م) قرَّرت فرنسا نقله إليها على متن سفينة، فلمَّا وصلت إلى ميناء بورسعيد تمكَّن بعض شباب المغرب المقيمين في مصر من زيارته على متن السفينة، ورجَوْهُ أن يتقدَّم باللجوء إلى مصر ليُواصل مسيرة الجهاد من أجل تحرير المغرب، فوافق على هذا الرأي شريطة أن تُوافق الحكومة المصرية على طلبه ، كما لاقاه وفد من جماعة الإخوان المسلمين مُرَحِّبين به .

 

و تمَّت الموافقة على طلبه على الرغم من احتجاج السفير الفرنسي في مصر ، وبدأ الخطابي عهدًا جديدًا من النضال الوطني من أجل تحرير بلاده ، وأسَّس مع أبناء المغرب العربي لجنة أطلقوا عليها «لجنة تحرير المغرب العربي»، تولَّى هو رئاستها في (25 من المحرم 1367هـ = 9 من ديسمبر 1947م

و في أثناء إقامته توطدت الصلة بينه وبين الإمام الشهيد حسن البنا، و تكرَّرت اللقاءات بينهما في اجتماعات عامَّة وخاصَّة؛ ولما استشهد الإمام البنا ، كتب الأمير عبد الكريم الخطابي : « ويح مصر! وإخوتي أهل مصر ! مما يستقبلون جزاء ما اقترفوا ، فقد سفكوا دم وليٍّ من أولياء الله، تُرى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم ؟ ! بل في غُرَّتِهم حسن البنا ، الذي لم يكن في المسلمين مثله ».

 

 وفاته

ظلَّ الأمير عبد الكريم الخطابي مقيمًا في القاهرة، يُتابع نشاط المجاهدين من أبناء المغرب العربي المقيمين في القاهرة، ويمدُّهم بنصائحه وإرشاداته، حتى لقي رَبَّه في (غرة رمضان 1382هـ = 6 من فبراير 1963م) .

 

من أقواله

قال عبد الكريم الخطابي: «إذا تناهى إلى أسماعكم أن الاستعمار أسرني أو قتلني أو بعثر جسمي كما يُبَعثر تراب هذه الأرض ، فاعلموا أنني حيٌّ وسأعود من جهة الشرق ».

 

و تروي ابنة المجاهد السيدة عائشة الخطابي كلمة عظيمة قالها والدها - رحمه الله - قبل تحقيق النصر في معركة أنوال الخالدة ؛ قال عبد الكريم الخطابي : «أنا لا أُريد أن أكون أميرًا ولا حاكمًا ، و إنما أُريد أن أكون حرًّا في بلدي، و لا أطيق مَنْ سلب حريتي أو كرامتي ».

 

أمَّا بعد الانتصار، فقال في اجتماع مع رجال الريف الذين توافدوا عليه بأعداد غفيرة يُريدون إعلانه سلطانًا : «لا أُريدها سلطنة ولا إمارة ولا جمهورية ولا محمية، وإنما أُريدها عدالة اجتماعية، ونظامًا عادلًا يستمدُّ رُوحه من تراثنا » .

 

1 - كونسورتيوم : هو ائتلاف أو اتحاد .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين