قادة غيروا الدنيا صلاح الدين الأيوبي -2-

 

 

فتح القدس

في عام (583هـ= 1187م) سقطت أغلب مدن وحصون مملكة بيت المقدس في يد صلاح الدين، وبعد ذلك انتصرت جيوش صلاح الدين على القوات الصليبية في موقعة حطين في (24 من ربيع الآخر 583هـ= 4 من يوليو 1187م)، وبعد المعركة سرعان ما احتلَّت قوات صلاح الدين وأخيه الملك العادل المدن الساحلية كلها تقريبًا جنوبي طرابلس: عكا، بيروت، صيدا، يافا، قيسارية، عسقلان. وقطع اتصالات مملكة القدس اللاتينية مع أوربا، وفي النصف الثاني من سبتمبر 1187م حاصرت قوات صلاح الدين القدس، ولم يكن بمقدور حاميتها الصغيرة أن تحميها من ضغط 60 ألف رجل؛ فاستسلمت بعد ستة أيام، وفي 27 من رجب 583 هـ= 12 من أكتوبر 1187م فُتحت الأبواب ورُفعت راية السلطان صلاح الدين الصفراء فوق القدس .

 

وعامل صلاح الدين القدس وسُكَّانها معاملة أرقَّ وأخفَّ بكثير ممَّا عامل الغزاة الصليبيون أهلها حين انتزعوا المدينة من حُكْم مصر قبل ذلك بمائة عام تقريبًا، فلم تقع حوادث قتل وسلب ونهب وتدمير للكنائس، وأدَّى سقوط مملكة القدس إلى دعوة روما إلى بدء التجهيز لحملة صليبية ثالثة لاسترداد القدس، ولكنها باءت بالفشل .

 

ريتشارد قلب الأسد والحملة الصليبية الثالثة

حفَّز فتح القدس خروج حملة صليبية ثالثة، مُوِّلت في إنجلترا وأجزاء من فرنسا بضريبة خاصة عُرفت عند الغرب بضريبة صلاح الدين، قاد الحملة ثلاثة من أكبر ملوك أوربا في ذلك الوقت هم ريتشَارد قلب الأسد ملك إنجلترا، وفيليب أغسطس ملك فرنسا، وملك ألمانيا فريدريك بربروسا الإمبراطور الروماني المقدس، إلَّا أن هذا الأخير مات أثناء الرحلة، وانضمَّ الآخران إلى حصار عكا التي سقطت سنة (587هـ= 1191م)، وأُعدم فيها ثلاثة آلاف سجين مسلم بمَا فيهم من نساء وأطفال، وفي 7 سبتمبر 1191م اشتبكت جيوش صلاح الدين مع جيوش الصليبيين بقيادة ريتشارد في معركة أرسوف التي انهزم فيها صلاح الدين، إلَّا أنَّ الصليبيين لم يتمكَّنُوا من اجتياح الداخل، وبقوا على الساحل، وفشلت كل محاولاتهم لغزو القدس فوقَّع ريتشارد في عام (587هـ= 1192م) معاهدة الرملة مع صلاح الدين؛ مستعيدًا بموجبها مملكة أورشليم الصليبية في شريط ساحلي ما بين يافا وصور، كما فُتحت القدس للحُجَّاج المسيحيين .

 

وكانت العلاقة بين صلاح الدين الأيوبي وريتشارد مثالاً للفروسية والاحترام المتبادلين؛ رغم الخصومة العسكرية، فعندما مرض ريتشارد بالحمى أرسل إليه صلاح الدين طبيبه الخاصَّ، كما أرسل إليه فاكهة طازجة وثلجًا لتبريد الشراب، وعندما فقد ريتشارد جواده في أرسوف أرسل إليه صلاح الدين اثنين .

 

ومن المعروف أن صلاح الدين وريتشارد لم يلتقيا أبدًا وجهًا لوجه، وكان التواصل بينهما بالكتابة أو بالرسل .

 

وفاة صلاح الدين الأيوبي

بلغ صلاح الدين من العمر في عام (589 هـ= 1193م) السابعة والخمسين، غير أن ما تعرَّض له من الإرهاق والتعب طوال مدَّة اصطدامه بالصليبيين أنهك صحَّته، وقد أقام في بيت المقدس إلى أن عَلِمَ برحيل ريتشارد قلب الأسد؛ فالتفت إلى تنظيم الشئون الإدارية لإقليم فلسطين، غير أن العمل أَلَحَّ عليه بضرورة المسير إلى دمشق، وفي الوقت ذاته فإنَّ ما تجمَّع في أثناء السنوات الأربع التي أمضاها في القتال من مشاكل إدارية وتراكم الأعمال التنظيمية، استدعى أن يُؤَجِّل زيارته لمصر، وتأدية فريضة الحجِّ، وتَطَلَّبَ منه بذل مجهودٍ كبيرٍ لتعويض ما خَرَّبته الحروب، وما تهيَّأ له من وقت الفراغ أمضاه في المناقشات مع العلماء في المسائل الدينية، وكان يخرج للصيد أحيانًا، على أنَّ كلَّ مَنْ شاهده ممَّنْ يعرفه - في أواخر الشتاء- أدرك أنَّ صحَّته انهارت، فصار يشكو من التعب والنسيان، ولم يَعُدْ باستطاعته أن يستقبل الناس .

 

وفي 16 من صفر 589 هـ= 21 من فبراير 1193م انتابته حُمَّى صفراوية استمرَّت اثني عشر يومًا، وقد تحمَّل أعراض المرض بجَلَدٍ وهدوء، وقد علم أن النهاية اقتربت، وفي 24 من صفر 589هـ أول مارس انتابته غيبوبة، وبعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء في 27 من صفر= 4 من مارس وبينما كان الشيخ أبو جعفر إمام الكلاسة يتلو أمامه القرآن؛ حتى إذا انتهى إلى قوله تعالى: {هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22] فتح صلاح الدين عينيه وتبسَّم، وتهلَّلَ وجهه، وسمعه وهو يقول: «صحيح...». ثم مضى إلى ربِّه في قلعة دمشق؛ فتولَّى تجهيزه القاضي الفاضل والقاضي المؤرخ ابن شدَّاد، وغَسَّلَه خطيب دمشق، واجتمع الناس في القلعة، وصَلَّوْا عليه ودُفِنَ فيها، وعَمَّ الحزنُ الكبارَ والصغارَ، ثم جلس ابنه الملكُ الأفضلُ عليٌّ للعزاء ثلاثة أيام، وأرسل الكتب إلى أخيه العزيز عثمان في مصر، وأخيه الظاهر غازي في حلب، وعمِّه العادل في الكرك، فحضروا، ثم حُصِرَت تَرِكَتُه فكانت دينارًا واحدًا وستةً وثلاثين درهمًا، ولم يُخَلِّفْ من المال سواها ثابتًا أو منقولًا؛ إذ كان قد أنفق معظم ماله في الصدقات .

 

وبالرغم من أن الدولة التي أسَّسها صلاح الدين لم تدم طويلًا من بعده، فإنَّ صلاح الدين يُعَدُّ في الوعي الإسلامي مُحرِّرَ القدس، واستُلْهِمَتْ شخصيَّته في الملاحم والأشعار، حتى مناهج التربية الوطنية في الدول العربية، كما أُلِّفَتْ عشرات الكتب عن سيرته، وتناولتها المسرحيات والتمثيليات والأعمال الدرامية، ولا يزال صلاح الدين يُضرب به المثل على القائد المسلم المثالي، الذي يعمل على مواجهة أعدائه بحسم ليُحَرِّرَ أراضي المسلمين، دون تفريط في الشهامة والأخلاق الرفيعة .

 

المراجع :

1- الذهبي: سير أعلام النبلاء، 15/412.

2- بهاء الدين ابن شداد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (سيرة صلاح الدين الأيوبي)، ص53، 54.

3- ابن القيم: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، 2/15.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين