قادة غيروا الدنيا سعد بن أبي وقاص -2-

فتوحات سعد بن أبي وقاص

قاد سعد بن أبي وقاص المسلمين في معركة القادسية حيث خرج في ثلاثين ألف مقاتل، وكان عدد الفرس أكثر من مائة ألف من المقاتلين المدرَّبين المدجَّجين بأنواعٍ متطوِّرة من عتاد وسلاح، وكان يتولَّى قيادة الفرس رستم ، وقبل المعركة كانت هناك رسائل بين سعدٍ وأمير المؤمنين الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ منها: «يا سعد بن وهيب.. لا يغرَّنَّك من الله أن قيل: خال رسول الله وصاحبه. فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلَّا بطاعته.. والناس شريفهم و وضيعهم في ذات الله سواء.. الله ربهم, وهم عباده.. يتفاضلون بالعافية, ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بُعِثَ إلى أن فارَقَنَا عليه فالزمه ؛ فإنه الأمر». ثم يقول له: «اكتب إليَّ بجميع أحوالكم, وكيف تنزلون، وأين يكون عدوُّكم منكم.. واجعلني بكتبك إليَّ كأني أنظر إليكم!».

 

ويكتب سعد إلى أمير المؤمنين فيصف له كل شيء؛ حتى إنه ليكاد يُحَدِّد له موقف كل جندي ومكانه، وقد أوصى عمر سعدًا بدعوتهم إلى الإسلام، ويُنَفِّذ سعد وصية عمر، فيُرسل إلى رستم قائد الفرس نفرًا من أصحابه يدعونه إلى الله وإلى الإسلام.

وكان المرض قد اشتدَّ على سعد، وملأت الدمامل جسده؛ حتى ما كان يستطيع أن يجلس، مفضلاً أن يعلو صهوة جواده ويخوض عليه معركة، عندئذٍ وقف في جيشه خطيبًا، مستهلاً خطابه بالآية الكريمة: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون} [الأنبياء: 105]، وبعد فراغه من خطبته، صلَّى بالجيش صلاة الظهر، ثم استقبل جنوده مكبِّرًا أربعًا: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. واستطاع جيش سعد هزيمة الفرس وقائدها رستم، ووصل الجيش إلى المدائن.

 

وكانت موقعة المدائن بعد موقعة القادسية بقرابة عامين؛ حيث جرت خلالهما مناوشات مستمرَّة بين الفرس والمسلمين, وقد استطاع سعد هزيمة الفرس؛ وذلك بقيادة الجيش وعبور نهر دجلة، وقد جهَّز كتيبتين؛ الأولى: واسمها كتيبة الأهوال، وأمَّر سعدٌ عليها عاصم بن عمرو التميمي، والثانية: اسمها الكتيبة الخرساء، وأمَّر عليها القعقاع بن عمرو التميمي، وقد نجحا في العبور وهزيمة الفرس.

 

إمارة العراق

ولَّاه الخليفة عمر ‎بن الخطاب رضي الله عنه إمارة العراق، فراح سعد رضي الله عنه يبني ويُعمِّر في الكوفة، وذات يوم اشتكاه أهل الكوفة لأمير المؤمنين؛ فقالوا: «إن سعدًا لا يُحسن الصلاة». واستدعاه عمر رضي الله عنه إلى المدينة فلَّبى مسرعًا، ويضحك سعدًا حين علم بشكوى أهل الكوفة قائلاً: «والله إني لأُصَلِّي بهم صلاة رسول الله، أُطيل في الركعتين الأوليين وأقصر في الآخرين». وحين أراد عمر ‎بن الخطاب أن يُعيده إلى الكوفة ضحك سعدٌ قائلاً: «أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أَنِّي لا أُحسن الصلاة؟!» وفضَّل البقاء في المدينة.

وعندما حضرت عمرَ رضي الله عنه الوفاةُ بعد أن طعنه المجوسي جعل الأمر من بعده إلى الستة الذين مات النبي وهو عنهم راضٍ؛ وأحدهم سعد بن أبي وقاص، وقال عمر: إن وليها سعد فذاك، وإن وليها غيره فليستعن بسعد.

 

اعتزاله الفتنة

اعتزل سعد رضي الله عنه الفتنة الكبرى بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وأمر أهله وأولاده ألَّا ينقلوا إليه شيئًا من أخبارها، وقد ذهب إليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص يقول له: «يا عم، ها هنا مائة ألف سيف يروك أحقَّ الناس بهذا الأمر». فيُجيبه سعد‎ٌ رضي الله عنه: «أُريد من مائة ألف سيف سيفًا واحدًا؛ إذا ضربتُ به المؤمن لم يصنع شيئًا، وإذا ضربتُ به الكافر قطع». فيتركه هاشم وعزلته، وحين انتهى الأمر لمعاوية بعد الاتفاق الشائك الذي تمَّ بعد معركة صفين، واستقرَّت بيده مقاليد الحكم سأل سعدًا: «ما لكَ لَمْ تُقاتِل معنا؟»

فأجابه: «إني مررت بريح مظلمة، فقلتُ: أخ.. أخ.. واتَّخذت من راحلتي حتى انجلت عني».

فقال معاوية: «ليس في كتاب الله أخ.. أخ.. ولكن قال الله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} [الحجرات:9]. وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية».

فأجابه سعد رضي الله عنه قائلاً: ما كنتُ لأقاتل رجلاً قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي (9).

 

وفاة سعد بن أبي وقاص

كان عمر سعد بن أبي وقاص طويلًا، وأفاء الله عليه من المال الكثير؛ لكنه حين أدركته الوفاة دعا بجبة من صوف بالية، وقال: «كفنوني بها؛ فإني لقيت بها المشركين يوم بدر، وإني أريد أن ألقى بها الله عز وجل أيضًا». وكان رأسه بحِجْر ابنه الباكي، فقال له: «ما يُبكيك يا بني؟! إن الله لا يُعَذِّبني أبدًا، وإني من أهل الجنة».

 

لقد كان إيمانه بصدق بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرًا، كانت وفاته سنة خمس وخمسين من الهجرة النبوية، وكان آخر المهاجرين وفاة، ودُفِن في البقيع.

 

المراجع :

1- الترمذي في سننه (3752)، وقال: هذا حيث حسن. والحاكم (6113)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

2- البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب سعد بن أبي وقاص الزهري وبنو زهرة أخوال، (3521).

3- البيهقي : السنن الكبرى، (12869).

4- البخاري: كتاب التمني، باب قوله – صلى الله عليه وسلم: ليت كذا وكذا، (6804)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة –رضي الله عنهم، باب في فضل سعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه، (2410).

5- البخاري: كتاب المرضى، باب وضع اليد على المريض، (5335)، ومسلم: كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، (1628).

6- رواه الحاكم في مستدركه (4314)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

7- رواه الحاكم في مستدركه (4314)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

8- رواه الترمذي في سننه (3755)، وقال: هذا حديث صحيح. وابن ماجه في سننه (129)، وأحمد في مسنده (1017).

9- البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة، (4154)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة – رضي الله عنهم، باب من فضائل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه، (2404)، واللفظ له.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين