في يوم الهجرة المباركة
بقلم الدكتور محمود أحمد الزين
في يوم الهجرة تعود إلى الأذهان صورة النور الإلهي ينطلق كمثل الينابيع الدافقة تفجرت في قلب الصحراء، فنشرت الحياة الطيبة في كل مكان، وكمثل شمس الربيع ضياءً لطيفاً تبدت كمالاته في وجه سيد المرسلين، فأخذت بمجامع القلوب، وهام بها عشاق المبادئ الإنسانية السامية، والمثل العليا الكاملة، أسقطوا كل عراقيل الضلال من وجه النور، وهاجروا في سبيل الله، وملؤوا بنوره الآفاق، يفتحون العقول قبل الحصون، ويتبوؤن القلوب قبل العروش، وصدحت المآذن والمنابرـ وسيف الحق يحرسها ـ بوحي السماء {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}، معين لا ينضب وشمس لا تغيب، غير أن الناس إذا غابت حراسة السيف ربما يحسبون أن الري في لوامع السراب، فينطلقون إليها لاهثين مبهورين ببريقها، فيتساقطون دون أن يجدوا شيئاً، وربما تحول بينهم وبين الشمس سحب عابرة ، فيهرعون وراء مشاعل تحملها أياد خائنة تسير بهم إلى سراديب الظلام لتقنعهم أنها بديل لتلك الشمس التي تضيء الآفاق. ويحسب المغفلون حينئذ أن الينابيع جفت، وأن الغيوم لن تزول وأن الشمس لن تعود. ويظهر حينئذ أولئك الكارهون كما تظهر خفافيش الليل وبوم الخراب، ويحسبون أنهم ملكوا زمام العالم، وأن جميع البشر لهم مستسلمون، ويحوم اليأس حول قلوب كثيرة، كانت آمالها تتوجه إلى ذلك المعين الدافق وتلك الشمس المنيرة.
غير أن الغيوم غيوم طبعها التحول والتبدد والزوال، فإذا طلعت الشمس تسارعت إلى غيرانها البوم والخفافيش، ورأى الناس طريق الحق والهدى، وأسرعوا إلى المعين الذي لا ينضب، يرتون وينتعشون، وتتجدد فيهم تباشير الحياة خضراء زاهية مزهرة، وإن غابت عنها حراسة سيف الحق حيناً من الدهر.
هل تعيش أمتنا اليوم فترة غيوم داكنة، تمتد متناثرة هنا وهناك، تعطي الفرصة للكارهين، فتصيح البوم حتى تصم الآذان، وتتطاير الخفافيش خاطفة أمام العيون حتى تكاد تزيغ، ويقهقه الكارهون ساخرين، أين العهد الذي كنتم تزعمون أيها المسلمون؟ أين الظهور على الدين كله ولو كره المشركون؟!
بلى يا عصبة الفساد ها هو ذا فسادكم يذكر الناس بعدالة هذا الدين، وسماحة هذا الدين، وإنسانية هذا الدين، وفيوض الخيرات، التي أروت أهل الملل الأخرى، كما أروت أهل هذا الدين على امتداد تاريخ هذا الدين، وكلما أوغلتم في الكيد والإفساد والظلم، ودفعتم الناس دفعاً إلى البحث الدائب عن ذلك الينبوع الدافق، وإلى التلهف على تلك الشمس المنيرة.
ألا ترون؟! ألا تسمعون؟! ألا تشعرون بعشاق المبادئ السامية، والمثل الإنسانية الراقية، وهم ينبذون ما علمتموهم من الأباطيل، ويكشفون غشاوة الأضاليل، ويلعنون شعاراتكم الخائنة، ثم يهرعون وراء النور المشرق من شمس الهداية المحمدية إلى ينبوع المبادئ الربانية {أفسحر هذا أم أنتم لاتبصرون}... ألا ترونهم يؤمنون فلا يرتدون، ويزيدون فلا ينقصون؟! وبكل خداعكم وعراقيلكم لا يبالون؟! كيف ظهر دينهم على دينكم وأنتم كارهون؟! ألا ترون أنهم بذلك يكشفون دعاياتكم الكاذبة، التي تزعم أن دين الإسلام انتشر بالسيف؟؟! أين السيف الآن، وهذا الدين يقتحم حصون الضلال فيهدها في كل مكان؟! بل اسألوا أهل الملل التي عاشت في ظلال سيوف الإسلام بحرية دينية لا مثيل لها؟ ما الذي أبقاهم في بقاع الإسلام إلى الآن وهم ملايين؟! ألا تذكرون بلاد الإسلام التي غصبتموها فسلطتم عليها محاكم التفتيش، تقتل وتحرق وتنفي، فلا تبقي ولا تذر؟ أين المسلمون هناك؟ هل ترون لهم باقية؟! لو كانت إنسانيتنا مثل إنسانيتكم، وعدالتنا مثل عدالتكم، وحريتنا الدينية مثل حريتكم، لما بقي من أهل ملتكم عندنا أحد. ولكن أين هذا من ذاك؟! أين السراب اللماع من الينبوع العذب الدافق؟! أين مشاعل الخداع في سراديب الضلال من شمس الهدى تسطع في كل الآفاق؟! وهل يصح أن يقال إن الشمس تضيء أكثر من الظلام، وإن العذب الزلال يروي أكثر من السراب؟!
يا أيام الهجرة المباركة أنت رمز الصبر والمصابرة، أنت رمز التدبير الإلهي بنصرة أهل الإيمان، وتكسير قيود الضلال، وتحطيم سدوده، والآمال معقودة بالله أبداً أن يعيدنا إليه، ويعيد ذلك إلينا: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا}.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول