في وفاة ناصر السنّة الشيخ المحدّث محمد عَجَاج الخطيب الحَسَني الدمشقي (4)

ومن مواقفه:

إني وإن فاتني شرف ملازمته، لأقيّد عنه بعض ما يلفت الانتباه من مسيرته:

قد علمتَ أن الفقيد أبلى شبابه في سبيل تأصيل الدفاع عن السنّة بشكل علمي منهجي رائد، وكيف نافح عن الصحابة الكرام، وعلى رأسهم أبو هريرة راوية الصحابة، ثم نافح عن راوية التابعين الإمام الزهري، ثم عن إمام المحدّثين الإمام البخاري، وأصّل لمسألة تدوين السنّة، تلك المسألة التي حاول أعداء السنّة من المستشرقين وأذنابهم الطعن في الشريعة عبر إثارة الشبهات حولها. وترى في مقدمات كتبه المبكّرة والتالية كيف أن همّه الكبير كان الدفاع عن سنّة سيد الأنام صلى الله عليه وسلّم، وسخّر له ما وَهَبه الله من ذكاء وعلم وتفوق في سبيل هذا الهدف السامي، حتى عُدَّ من روّاد هذا المجال، ولا يُحصى مَن أفاد من أعماله.

وبقي هذا الهمٍّ معه طوال حياته، وقد حدثني الشيخ عمر الحفيان عن زميلنا المجاهد الشيخ زهران عَلُّوش -لما دَرَس عنده في كلية الشريعة- أنه كان خير المدرّسين فيها، وكان هجّيراه في محاضراته الدفاع عن الصحابة ومكانتهم، على اعتدالٍ وتعظيمٍ للسنّة، وتقديرٍ لأعلامها من المعاصرين، وكان للشيخين محب الدين الخطيب -قريبه- وبهجت البيطار وغيرهما أثرٌ عليه.

ومن المواقف الشخصية التي أثّرت فيّ ولا زلتُ أذكرها للفقيد: أن الأخ الحبيب الشيخ أيمن ذو الغِنَى كان نشر في حسابه (الفيسبوك) من سبع سنوات صورة له مع ولديّ عمر وعلي -وفقهما الله وحفظهما وبارك فيهما وفي ذرية الجميع- ، في إحدى دورات سماع كتب السُّنن في الرياض، وكَتَب أن ابني عمر قد أتمَّ سماع الكتب التسعة، فدخل الشيخ الفقيد بحسابه في الفيسبوك، وكتب كلمات أبوية تفيض نصحًا ومحبّة وسموًّا، ودعا بدعواتٍ غاليات هي من أجل الغنائم المرجوّات، ممن يدلُّ على حبّه الخير لعامة المسلمين، ونصيحته الخاصة والعامة للأمة، وتعلُّق نفسه بحبِّ السنّة ورفعتها.

وترى في أعمال الفقيد: تنوُّع مساهماته في خدمة الإسلام، فرغم تخصصه العالي في الحديث وعلومه، ولكن كان عنده شمولية في الخدمات، بحيث اعتنى أيضًا بالتربية والإعلام الهادف، وغير ذلك.

ومما يغبط به أن مؤلفاته الرائدة كُتب لها قبول تام، وعُدَّ بعضها من المراجع الرئيسة في بابها، وترى فيها تميُّزًا في تيسير المعلومات ووضوح العرض بما يناسب عامة القراء، وهكذا كان في حديثه في تدريسه وفي وسائل الإعلام ينحو نحو الوضوح واللغة السهلة، مع الفصاحة وجودة البيان، وهذا من دلائل نُصحه رحمه الله.

ونظرة لتنوُّع مشايخه وكثرتهم مع نتاجه الثريّ تنبيك عن توسع آفاقه وسعة دائرته ومعارفه رحمه الله.

وعُرف المترجم بالصلاح، والنصيحة، والبذل، ورقة القلب، وسمو الأخلاق، والاعتدال، والسداد، وما عُرف عنه شططٌ ولا تزلُّف، ويُرجى له حديث: «خيركم من طال عُمُره وحَسُن عَمَلُه».

وبقي على الاستقامة والسداد إلى أن وافته منيّته في مدينة مُوْبِيل بأمريكا -حيث يقيم ابنه الدكتور محمد مازن- عن 93 عامًا رحمه الله تعالى.

وعن وفاته أرسل إليّ ابنه الدكتور مازن: لما توفي كان معه زوجتي وابني الكبير، ويُقرأ بحضرته سورة البقرة، فنظر في زاوية للأعلى وحدّق فيها، ثم خرجت روحه في هدوء وجلاء وسكينة، وكأنه نائم، ووجهه نورٌ ظاهر. ا.هـ.

فسلامٌ عليك يا شيخنا يوم وُلدت، ويوم تموت، ويوم تُبعث حيًّا.

بكتك القلوب والعيون، نسأل الله أن يخلف على الأمّة من أمثالك، وأن يُعْظِمَ أجرك، ويرفع درجاتك في الفردوس، ويحسن عزاء ذويك ومحبيك، ويبارك في ذريتك وعلمك وأثرك.

إنا لله وإنا إليه راجعون.

كتبه على عُجالة أداءً لبعض حقِّه

محمد زياد بن عمر التُّكْلَة، في دارْبي

ضحى الاثنين 5 ربيع الأول سنة 1443

من مصادر الترجمة:

ترجمة ذاتية للفقيد، والاستدعاء المشرق (ص177)، وغرر الشآم (1/360)، ومذكرات ومشافهات شخصية. وتم إجازة نشر هذه الترجمة من ابن الفقيد.

الحلقة السابقة هــنا