في وداع العالم المجاهد نافع العلواني رحمه الله تعالى وكلمات في رثائه(2)

 نتابع في هذه الحلقة بعض ما كتب عن فضيلة الشيخ نافع من إخوانه وتلامذته ومحبيه، ونقتصر على ثلاث كلمات الأولى لأستاذنا الداعية المربي محمد عادل فارس، والثانية لأخينا رسلان المصري الحموي، والثالثة للأخت الداعية الفاضلة عائشة محمود شعبان أم اليمان .

كتب الأستاذ المربي المهندس محمد عادل فارس :

رحم الله شيخنا أبا عبادة نافع علواني.

بعد أحداث حماة سنة 1964 كان من إجراءات السلطة التعسفية أن أبعدت عن مدينة حماة عددا من المدرسين ذوي التأثير القوي في نفوس التلاميذ والطلاب، فكان نصيب الشيخ سعيد حوا النقل إلى بلدة السلمية، وبعضهم إلى الحسكة...وأُبعد الشيخ نافع علواني إلى حلب، يدرّس في ثانوية الصناعة، وفي إعدادية سيف الدولة. وفي كلتا المدرستين ترك آثارا حسنة نسأل الله أن يأجره عليها. وفي هذه المرحلة كان لي حظ التلمذة عليه حيث أصبح موجها لأسرتي (الإخوانية)،ألتقيه كل أسبوع مع عدد من إخواني فيبثّ فينا روح التقوى، وحماسة الإيمان، ونور العلم. وما زالت ذكريات تلك الأيام عميقة الأثر في نفسي.

وفي تلك المرحلة سألني الشيخ: عندي تلميذ في الإعدادية التي أدرّس فيها، تبدو عليه علائم التقوى. بدأت لحيته بالظهور، ويضع على رأسه عمامة، وأنا أخجل من نفسي: أنا مدرس الديانة ولا أضع عمامة، وواحد من تلاميذي يضعها.

قلت :ما اسم هذا التلميذ، لعلي أسأل لك عنه؟ قال: اسمه حسني عابو.

سألت له عن حسني وأتيته بالجواب: إنه أحد شبابنا، يحضر لقاء الأسر الأسبوعية، وهو كذلك تلميذ الشيخ محمد الحجار إمام جامع "الزكي" الذي يجاور بيت حسني في حي باب النصر.

ويشاء الله أن يملأ قلب الشيخ نافع وقلب تلميذه حسني، بحبِّ كلٍّ منهما للآخر وإعجابه به.

ويكبر حسني ويتزوج ويصبح ذا شأن، ويرزق بمولود، ويبحث له عن اسم يعبّر عما في نفسه: إنه معجب بعملاق الفكر الإسلامي سيد قطب، ومعجب بالشيخ نافع. وكأنَّ الله ألهمه أنه لن يعيش حتى يرزق بمولود بعده، لذلك سمّى هذا المولود بـ"سيد نافع" فجمع باسمه تمجيد القائدين.

وشاء الله أن يعمل الشيخ نافع في الإمارات بضع سنين، ثم يأتي للإقامة في عمّان.

في زيارتي له في عمان جاءته مكالمة هاتفية من الإمارات، وامتدت المكالمة ثلاثين دقيقة أو تزيد، والرجل الإماراتي يستفتي الشيخ في بعض الأمور، والشيخ يستوضح منه جوانب المسألة، ويوضح له الإجابة، ويراجع له الكتب، ويملي عليه بعض النقول.

وعلمت أن مثل هذه المكالمة يتكرر كثيرًا، فمعارفه في الإمارات قد عرفوا أيّ عالم هو، وأدركوا أنه ذخيرة في العلم والفقه والفتوى.

وكان للشيخ - رحمه الله - درس أسبوعيّ في مسجد فاطمة الزهراء، القريب من بيته في عمان، كل يوم جمعة فاستفاد منه سكان عمان كما استفاد منه سكان الإمارات، وكما استفدت منه أنا وكثير من تلامذته في حماة وحلب وغيرهما. إنه كالغيث حيثما هطل نفع.

نسأل الله تعالى أن يتقبله ويتقبل منه، وأن يضاعف حسناته ويجزيه خير الجزاء.

وكتب الأخ الشيخ رسلان المصري الحَمَوي :

رحم الله شيخنا أبا عبادة "الشيخ نافع خالد علواني" فقد انتشر ذكره بين طلبة العلم في حماة منذ أن كنا صغاراً في المرحلة الابتدائية، وخصوصاً بعد أحداث جامع السلطان في مدينة حماة الذي كان نقله من التدريس في مدارسها من أهم أسباب تلك الأحداث، وبقي ذكره يزداد، وما زلت أتمنّى اللقاء به حتى تحقق أول مرة في المدينة المنورة قريباً من الحجرة الشريفة في عام 1978م حينما كنا طلاباً في الجامعة الإسلامية، ولم يطل هذا اللقاء حيث كان متوجِّهاً إلى العمرة ومن بعدها إلى دولة الإمارات العربية.

ثم انقطعنا إلى عام 1997م حيث زرته أول مرة مع الأخ أبي نعيم/ أمير زكية ، في بيته بعمان، وكانت زيارة طويلة من حيث الأنسُ والإمتاع بأحاديث الشيخ ونكاته وفوائده العلمية، وكان من بين أحاديثه: تعرفه على الشيخ محمد الحامد رحمه الله وتتلمذه عليه، وتواضع الشيخ وحبه لتلاميذه وأنسه معه، وكم زاره الشيخ في بيته الصغير ،لكنه مطل على البساتين تلك المناظر التي يأنس لها الشيخ الحامد. كما حدثنا عن ورع الشيخ رحمه الله.

وأذكر أنه ذكر لي ميلاده عام 1932م وتعرفه على الشيخ محمد الحامد عام 1952م.

وقد سألته عن علاقته بالشيخ فيصل الحجي فاسترجع الذكريات بينهما والأشعار التي تبادلاها.

كما حدثنا عن انتقاله من الإمارات إلى الأردن والملابسات التي حصلت.

وعن تفسير الأحلام وأنه يزمع تأليف كتاب في ذلك، وقد أظهرت له عدم ارتياحي لذلك، وأن حاجات الأمة الآن أكبر من ذلك فأقرَّني على ذلك.

ثم استمرت الزيارات في كل صيف في العطلة الصيفية، وقد أهداني مجموعة ضخمة من دروسه التي كان يلقيها في الإمارات وفي الأردن.

كما حدثنا عن ذكريات الطلب في جامعة دمشق، حيث كان يسكن مع الأستاذ عبد الغني سعد الدين رحمه الله، والمقالب التي كانت تحدث بينهما.

ممَّا يميِّز الشيخ رحمه الله: لطفه مع جلسائه، وكرمه في بيته، وإبداء الملاحظات بلطف وأناة، وسؤاله عن إخوانه وزملائه في التدريس وطلابه، وحرصه على الوقت، وعلى نشر العلم، وتحرقه على واقع أمته، والرجولة الأصيلة مع شجاعة وإقدام، والأناقة في الكلام والمظهر.

وقد عرف الحَمَويون ذلك فقدروا له قدره من حيث الاحترامُ والتقدير، والثقة بعلمه ، والحرص على دروسه واستفتاؤهم له في ما يعرض لهم من مسائل فقهية. بل عرض مشكلاتهم عليه. وكم كان يسعد بحلِّها .

اللهمَّ لا تحرمنا أجرَه، ولا تفتنَّا بعده، واغفر لنا وله، اللهمَّ أنت ربه، وأنت خلقته، وأنت تعلم سرَّه وعلانيتَه، جئناك شفعاء، فاغفر له وارحمه، وتجاوز عنه، واغسله بالماء والثلج والبرَد، وباعد بينه وبين خطاياه كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقِّه من خطاياه كما ينقَّى الثوبُ الأبيض من الدَّنس.

وكتبت الأخت السيدة عائشة بنت محمود شعبان أم يمان:

عظَّم الله الأجر، ورحم الله عالمنا الشيخ " نافع العلواني " فقد أفضى لما قدَّم، جعله الله في عليين.

كم قدَّم لنا من خير لدنيانا وآخرتنا حين كان يحاضرنا نحن النساء بعلوم روحانية قيمة استفدنا منها وأفدنا منها بإذن الله, وأعطيت لصديقات كريمات محاضرات له صوَّرنها وقدَّمن علومًا لطالباتهن .

ويحضرني منذ تفاجأت بخبر وفاته رحمه الله :" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث .........وعلم ينتفع به " فأغبطه على ذلك وأقول: كم من رجالنا وعلمائنا هُجِّروا وأخرجوا من ديارهم بغير حقِّ إلا أن يقولوا ربنا الله.

كان هدف الظلم والطغاة حرمان بلادهم من علومهم , لكنهم ظلوا قناديل نور تنير الطريق أينما حلوا وحيثما ساروا :

أؤلئك آبائي فجئني بمثلهم .....وهؤلاء علماؤنا ......وهؤلاء رجالنا ....

ولن تهزم أمَّة فيها علماء .....وتُربِّي علماء .....وأمة تنهل من ينابيع العلم من مثل هؤلاء العلماء الجبال الذين نذروا حياتهم للعمل في سبيل الله.

عالمنا: جعلك الله في الغرف في الجنة, ورفعك بكل حرف قدَّمته في سبيل الله بدرجة في عليين.

وكتبت الأخت عائشة شعبان أم يمان أيضا:

هذه صورة الشيخ نافع علوان في محاضرة من محاضراته التي كان يلقيها على مسامع الأخوات في مدينة الزرقاء عام ١٩٩٤ واستمرت حتى ١٩٩٥ حيث كنا نجمع أخوات ذوات وعي وفكر فيلقي المحاضرات، وكم كنَّ يتلهفن لهذه المحاضرات، وكانت محاضراته محاضرات فقه وتزكية، وكنَّ يكتبنها. وقد امتاز بهيبة العلماء وطريقة الدعاة وقلة الكلام الخارج عن الموضوع ومن هيبته كنَّ يحسبن حساب الكلمة أو السؤال الذي سيسألنه .

كذلك أخذت بعض الأخوات رقم هاتفه ليستفتينه في كثير من الأمور والمسائل ويقلن لي: لا نرتاح إلا لفتاويه وآرائه 

رحمه الله تعالى وجعله في عليين.

الحلقة الأولى هــــنا