في محاسبة النفس

 

(متى آلمك عدم إقبال الناس عليك، أو توجههم بالذم إليك، فارجع إلى علم الله فيك، فإن كان لا يقنعك علمه فيك فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم

صلة المؤمن بالله هي أساس أمنه أو قلقه، وفرحه أو أساه، أما صلته بالناس فهي تجيء في المرتبة الأخرى، وتجيء محكومة ببواعث الصلة الأولى وغايتها.

 إن رأى الناس في أمر ما ليس حكماً مبرماً بالتخطئة والتصويب، ورأيهم في شخص ما ليس حكماً بالرفعة والضعة.

 والذي يحدث غالباً أن آراء الناس هذه ترسل إرسالاً يحتاج إلى الضبط والتمحيص، وقلما يكتنفها الرشد والسداد.

 ولذلك يقول أبو تمام: 

إن شئت أن يسود ظنك كله فأجله في هذا السواد الأعظم!

 بل إنه في الأزمات التي تحتاج إلى النجدة، والشدائد التي تحتاج إلى البطولة، تبحث في الزحام الكثيف عن الرجال الذين يلقون هذه المواقف... فتروعك ندرتهم...

 ما أكثر الناس، لا، بل ما أقلهم الله يعلم أني لم أقل فنداً إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحداً ومن ثَم كان عزاء المصلحين حين يلقون الصدود والغمط، ويشعرون بالإنكار والعزلة قول الله جل شأنه: [وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ] {الأنعام:116-117}.

 ولما كان انبعاث المؤمن من ضميره وحده، ومبتغاه أن يرضى الله عنه، فهو لا يكترث، أوقع الناس فيه، أم كانوا إلى جانبه...!!

 بيد أن الإنسان شديد الروابط بالمجتمع الذي يعيش فيه، ونفسه ـ طوعاً أو كرهاً  لابدَّ أن تتأثر بتيارات المدح والذم التي تهب عليه.

 ومن حق الرجل الفاضل ألا يعرضه فضله لهوان، إذا لم يكسب له ما يجب من احترام.

 ومن حقه أن يدفع عن نفسه قالة السوء، وأن يتخذ من ضروب الحيطة ما يعقل ألسنة الشر عن مناله.

 ومن حقه وهو مصدر إشعاع ألا يكسف نوره، وأن تؤخذ عنه الأسوة الحسنة وأن تأوي إليه عناصر الخير في الدنيا لتحتمي به...

 ومن ثم فصلته بالناس يجب أن تشرح بشيء من التفصيل.

 إن ظهوره بالبر بينهم، ومعالنته بفرائض الإسلام وشعائره شيء طبيعي لا حرج فيه: [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {البقرة:271} 

وحرصه على صيانة سمعته من أي غبار شيء طبيعي، وقد استوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً رأوه مع إحدى زوجاته، وأفهمهم أنه مع فلانة زوجته حتى لا يظنوا به السوء، مع أنه فوق التهم.

 وسروره بما يعرف عنه من خير شيء طبيعي، بعد أن أدَّى هذا الخير بنية خالصة وقلب سليم.

 وقد تحدث الصحابة رضي الله عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشعور الذي يخالج أنفسهم عندما يذكرهم الناس بخير على عمل قاموا به لله.

 فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن).

 وتلا قوله تعالى:[الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {يونس:63-64}.

 إنَّ التمكين في الأرض من رحمة الله تعالى، ونباهة الشأن جزء من التمكين في الأرض، ولذلك امتنَّ الله سبحانه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال:[وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ] {الشرح:4}.

 وطلب إبراهيم عليه السلام من ربه أن يخلد له حسن الثناء على امتداد الزمن فقال: [رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآَخِرِينَ] {الشعراء:83-84}.

والمهم أن يصدر الإنسان في عمله عن إخلاص لله تعالى، وألا يبتغي بأدائه عرض الدنيا ولا وجوه الخلق.

وأن تكون رغبته في الله راجحة أي باعث آخر، فلو خاصم الناس طراً من أجل مولاه لم يجزع ولم يفزع.

 وأن تكون علاقته بالناس ـ إن أحبهم ـ تعاوناً على الحق، لا تناصراً على الأغراض، أو تجمعا على الشهوات والحظوظ النفسية...

فماذا أحس الإنسان بالتواء العامة عليه أو بنفرة الآخرين منه، فلينظر: كيف صلته بالله؟ فإن كان طيب النفس بها، قرير العين بتوطدها، فلا عليه لو مادت الدنيا تحت قدميه.

 فما سخط العبيد بجنب رضا السيد؟ وما أحراه أن يتدبر جواب هود لقومه: [إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ(55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56) ]. {هود}. 

أما إذا كانت علاقته بالله سبحانه غامضة واهنة، فليست مصيبته في اضطراب حبله مع العباد وانصراف قلوبهم عنه وحزنه على ذلك، بل مصيبته التي تجل عن العزاء في أنه ليس له مع الله ما يهدئ حاله، ويقر باله...

 وذلك أصل الداء.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

من كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين