في فضل الصيام
اختيارالشيخ : مجد مكي
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كلُّ عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . قال الله عزَّ وجل : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. للصائم فرحتان : فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».
الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد ، بل يضاعفه الله عزَّ وجل أضعافاً كثيرة بغير حصر، فإن الصيام من الصبر، وقد قال الله تعالى :[ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الزُّمر:10} . وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى شهر رمضان : شهر الصبر.

وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال : «الصوم نصف الصبر» أخرجه الترمذي .
والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله ، وصبر على محارم الله ، وصبر على أقدار الله المؤلمة .

وتجتمع الثلاثة في الصوم، فإنَّ فيه صَبْراً على طاعة الله ، وصبراً عما حرَّم الله على الصائم من الشهوات، وصبراً على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش ،وضعف النفس والبدن.

وفي حديث سلمان المرفوع الذي أخرجه ابن خزيمة في صحيحه في فضل شهر رمضان :« وهو شهر الصبر والصبر، ثوابه الجنة».

ومضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب منها:
1 ـ شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحرم ، ولذلك تضاعف الصلاة في مَسْجِدَيْ مكة والمدينة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح:« صلاة في مسجدي كألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام».

روى ابن ماجه بإسناد ضعيف عن ابن عباس مرفوعاً:« من أدرك رمضان بمكة فصامه وقام منه ما تيسَّر كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه».

2 ـ شرف الزمان: كشهر رمضان ، وعشر ذي الحجة.
وفي حديث سلمان: « من تطوَّع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدَّى فريضة فيما سواه».

وفي الترمذي عن أنس سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أيُّ الصدقة أفضل؟ قال : «صدقة في رمضان».

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم :«عمرة في رمضان تعدل بحجة أو قال : حجة معي ».

فلما كان الصيام في نفسه مضاعفاً أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال ، كان صيام شهر رمضان مضاعفاً على سائر الصيام لشرف زمانه، لكونه هو الصيام الذي فرضه الله على عباده، وجعله أحد أركان الإسلام.

3 ـ شرف العامل عند الله وقربه منه، وكثرة تقواه، كما ضوعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم ، وأعطوا كِفْلَين من الأجر.

قوله صلى الله عليه وسلم :« فإنه لي » فإنّ الله خصَّ الصيام بإضافته إلى نفسه سبحانه دون سائر الأعمال ، لأمرين:

الأول: أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها التي جُبِلت على الميل إليها ، لله عزَّ وجل ، ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام.

لأنَّ الإحرام إنما يُترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب. وأما الصلاة فإنه وإن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول ، بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله فيجد الصائم فقد هذه الشهوات وتشوق نفسه إليها.

فإذا اشتَّد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه، ثم تركته لله عزوجل في موضع لا يطَّلع عليه إلا الله ، كان ذلك دليلاً على صحة الإيمان . فإن الصائم يعلم أن له رباً يطَّلع عليه في خلوته فامتثل أمره، واجتنب نهيه، خوفاً من عقابه ورغبةً في ثوابه ، ولذلك اختصَّ الله تعالى لنفسه عمله هذا من بين سائر الأعمال وقال: « إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي».

الوجه الثاني: أن الصيام سرٌّ بين العبد وربه لا يطَّلع عليه غيره، فلا يدخل فيه الرياء.

قوله صلى الله عليه وسلم : « ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي».

الصائم يتقرب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام والشراب والنكاح، وهذه أعظم شهوات النفس، وفي التقرُّب ترك هذه الشهوات فوائد منها:

1 ـ كسر النفس ، فإنَّ الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة.
2 ـ ومنها : تخلي القلب للفكر والذكر ، فإن تناول هذه الشهوات تقسي القلب وتحول بين العبد وبين الذكر والفكر ، وخلو الباطن من الطعام والشراب يُنوِّر القلب ويوجب رقَّته .
3 ـ ومنها: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه ، فيتذكر من مُنع من الطعام والشراب ، فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته.
4 ـ ومنها: أن الصيام يُضيِّق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان ، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان ، وتنكسر سَوْرة الشهوة والغضب.
قوله صلى الله عليه وسلم : « وللصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ».
أما فرحة الصائم عند فطره، فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا مُنِعَتْ من ذلك في وقتٍ من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما مُنِعت منه، خصوصاً عند اشتداد الحاجة إليه.
والله تعالى حرَّم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات، وأذن له في الليل، وأحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل، فالصائم ترك شهواته لله بالنهار تقرباً إلى الله وطاعةً له، ويبادر إليها في الليل طاعةً لله وتقرباً إليه .
فما تركها إلا بأمر ربه،ولا عاد إليها إلا بأمر ربه، فهو مطيع له في الحالين. فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقرُّباً إلى مولاه وأكل وشرب وحمد الله فإنه يرجى له المغفرة. وفي الحديث :« إن الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها».
وإن نوى بأكله وشربه تقوية بدنه على القيام والصيام كان مثاباً على ذلك، كما أنه إذا نوى بنومه في الليل والنهر التقوِّي على العمل كان نومه عبادة.
فالصائم في ليلة ونهاره في عبادة ، ويُستجاب دعاؤه في صيامه وعند فطره ، فهو في نهاره صائم صابر، وفي ليله طاعم شاكر.
ففرح الصائم عند فطره من فَضْل الله ورحمته، فيدخل في قول الله تعالى :[قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] {يونس:58} .
ولكن شرط ذلك أن يكون فطره على حلال، فإن كان فطره على حرام كان كمن صام عما أحلَّ الله وأفطر على ما حرَّم الله ولم يُستجب له دعاء.
وأما فرحه عند لقاء ربه فيما يجده عند الله من ثواب الصيام مُدَّخراً ، فيجده أحوج ما كان إليه كما قال تعالى :[ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا] {المزمل:20} .وقال تعالى :[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ] {الزَّلزلة:7}.
وقال تعالى :[كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ] {الحاقَّة:24} .قال مجاهد: نزلت في الصائمين .
« إن في الجنة باباً يقال له : الريان ، يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم» ، وفي رواية : « من دخل منه شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً».
وقوله صلى الله عليه وسلم : «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».
خلوف الفم: رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة لخُلوِّ المعدة من الطعام، وهي رائحة مُسْتكرهة في مشامِّ الناس في الدنيا، لكنها طيبة عند الله لأنها ناشئة عن طاعته وابتغاء مرضاته، كما أنَّ دم الشهيد يجيء يوم القيام يثغب دماً لونه لون الدم وريحه ريح المسك.
من «لطائف المعارف» لابن رجب الحنبلي.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين